«نيال اللي ماعندو كرامة». عبارةٌ ينسِبها أهلنا في جبل العرب الأشمّ إلى قائدِ الثورة السورية سلطان باشا الأطرش.
عبارةٌ على بساطَتها لكنها تختصرُ الكثيرَ من سلوكياتِ الحياة، من استمراءٍ للهوان حتى يَسهُل الذلَّ وصولاً إلى تحوّل الإنسان إلى تاجرٍ بالمواقف والأحط من هذا وذاك: تاجر بالإنسانية.
منذ عقدٍ من الزمن أصبحت قضيةَ «التبدل المناخي» الشغل الشاغِل للناشطين الأوروبيين، إن كان بالدعوة للمزيد من الإنفاق على الأبحاث المتعلقة بالوقوفِ بوجهِ هذا الخطر، وصولاً لتشكيلِ أحزاب سياسية تضع قضايا المناخ على سلم أولوياتها كما هو الحال مع «حزب الخضر».
في العام الماضي قدَّمت مراهقةٌ سويدية تُدعى غريتا تونبرغ ما يمكننا وصفهُ بالمادةِ الدسمة لهذا الغرب لإعادةِ تسويقِ نفسه كراعٍ رسمي للإنسانيةِ والحرص على هذا العالم، تحديداً بعدَ العديد من الزلاّت والفضائح التي شوهت صورةَ هذا الغرب.
«غريتا تونبرغ» كانت في الخامسة عشرة من عمرها عندما أعلنت إضراباً عن الدراسة بذريعةِ الاحتجاج أمام البرلمان السويدي لعدم الاهتمام بقضايا المناخ، وما هي إلا أسابيع حتى تحولت إلى نجمةٍ تلفزيونية في البكاء للتحذيرِ من الخطر الذي سيداهم الكوكب، ومن ثم أصبحت تدريجياً أيقونةٍ أوروبية يسعى الجميع كما يقولون إلى (الاستماع إلى وجهةِ نظرها المهمة)، لينتهي بها الاهتمام بإلقاءِ كلمة قبلَ أيامٍ في افتتاحِ قمة الأمم المتحدة للمناخ وتطلق صرختها التي تحولت عنواناً ومانشيتاً للصحف الأوربية الصادرة في اليومين الماضيين، (لقد قتلتم أحلامي).
يبدو جلياً أن الفتاة استفادت كثيراً من ولادتها لعائلةٍ يعمل فيها الأب كممثل سينمائي، لكنها بذاتِ الوقت استفادت من دقة اللحظة التي يريد فيها الغرب تسويقَ أي قضية لإعادةِ تلميع ذاته. ربما يحتاج هذا الغرب إلى «خبطات إنسانية» كهذه عندما تعصفُ بهِ قضايا الانحلال الإنساني، هل تذكرون مثلاً عندما كان التوجه للناخب الأميركي بانتخاب باراك أوباما رئيساً أميركياً؟ كانت أميركا بحاجةٍ فعلية لإعادةِ إنتاج صورتها بعد أن دمرتها حربا العراق وأفغانستان، فكان الحل بانتخاب أول رئيسٍ أسود للبيت الأبيض.
اليوم تبدو قضية «غريتا تونبرغ» لا تخرج عن هذا السياق، هذا الغرب هو نفسه الذي تاجر يوماً بصورة الطفل السوري «إيلان» الذي وجدوا جثته على أحد شواطئ تركيا، وسوَّق لكذبة «بانة العابد»، وأنتجَ عشرات الأفلام التي تسوق لإنسانيةِ الجنود الأميركيين في العراق، فهم لم يقتلوا نصف مليون شخص ولم يقصفوا الفلوجة مثلاً بالفوسفور المحرم ولم يبيدوا مدينة الرقة في تحالف اللصوص ضد ما صنعوه من إرهاب، هذا الغرب بات يكترث لأحلامٍ طفلةٍ تتلاشى، هل نجهش بالبكاء؟
هنا قد يقول البعض إن هذا الكلام مُستهلكك، فلماذا نلوم الغرب على المتاجرةِ بنا ونحن شعوب بتنا على الهامش؟ أليسَ هناك من أبناءِ جلدتنا من تاجرَ بنا وبأحلامنا ولا يزال؟
قد تبدو الفكرة منطقية لكن لا أحد يرى بنفسهِ على الهامش إلا المنهزم من الداخل، لأننا ندرك أن وقت القضاء على سارقي الأحلام أياً كان توصيفهم قد اقترب فلماذا لا نتعاطى بمقاربةٍ ثانية:
لماذا لم يفكر الغرب ذاته بالإنصات للملايين التي رفضت الحرب على العراق، أو الهجوم على سوريا أو الدفاع عن قاتلي الأبرياء في اليمن، ألم يكن بينهم مثلاً «غريتا تونبرغ» واحدة تستحق وجهة نظرها أن ينصتوا إليها، ألم يكن في تلك الجموع من كانَ يحلم بأن يرى العالمَ بلا حروبٍ، لماذا لم تكترثوا لأحلامهم؟
في الخلاصة: قد تختصر عبارة «نيال اللي ما عندو كرامة» الكثير، تحديداً إنها في واقعنا كانت سبباً لصعود أولئكَ الذين سرقوا أحلامنا، أما على المستوى العالمي فقد نضيف إلى هذه العبارة:
«نيال اللي ما عندو إنسانية»، فيصبح تاجراً بكل شيء، من قال إن الاتجار بالأطفال له جانبٌ واحدٌ فقط؟!