ثقافة وفن

وللزمن دورته وحسابه

| إسماعيل مروة

ها قد انقضت سنوات الحرب على سورية، فصمد من صمد، وقتل من قتل، وأثرى من أثرى، وافتقر من افتقر، وتشرد من تشرد، وعزّ ذليل، وذل عزيز! وكان الجميع يتراكضون وكأن الحرب لا نهاية لها، وكأن الحال يدوم على ما هو عليه، وللحقيقة فإن كثيرين كانوا لا ينظرون إلى آخر النفق، أو بالأصح لا يريدون النظر، أو أكثر دقة لا يرغبون بانتهاء مسافة النفق التي طالت أكثر من المتوقع، وخاصة أن سورية لم تكن في وضع رديء أو مترد، بل كانت في موقع مهم، بلا مديونية، وبلا أمية، وفي طريقها لإصلاح إداري وسياسي وحزبي، والمنصف يعرف أن المؤتمر الأخير للحزب قبل الحرب على سورية شهد طروحات واستطلاعات رأي وأفكاره التي تم تداولها كانت كفيلة بحياة سياسية مختلفة تمام الاختلاف.
ولم يشأ المتحلقون حول جوقة الحرب والدمار أن يقفوا عند ما تم إنجازه في سورية خلال عقد من الزمن والبناء عليه، بل أرادوا هدم كل شيء، وتدمير كل شيء للجلوس على الأنقاض والأشلاء، وجميعنا تابع أن ما زاد أوار الحرب على سورية وجود طبقة من المثقفين، وبعضهم تم تحميله صفة مفكر وفيلسوف، هذه الطبقة من المثقفين لا تعرف سوى جلسات الأنس والسرور، وجلهم كانوا تابعين لرجال من الصفوف المتأخرة في السلطة، ويفاخرون بمرتبات وأعطيات وهدايا وصلت إلى البيوت الممنوحة بغير وجه حق أو استحقاق! هؤلاء جلسوا ينظّرون للحرب، ويتحدثون عن الحرية وعن الظلم، وهم ما عرفوه، ونسي هؤلاء وقد أسبغت عليهم الألقاب المتهدلة أن الأفكار لا تأتي تابعة أو متابعة، وإنما الأفكار تأتي سابقة وخميرة للأرض، ولذا كان روسو بآرائه رائداً للثورة الفرنسية، والنماذج كثيرة وهؤلاء جلسوا في أقبية بعد الشاشات وتكوموا على أموالهم التي حصّلوها يندبون حظاً عاثراً ويشتمون دولاً داعمة لم تقم بالقتال نيابة عنهم!
والجزء الآخر هو المستمتع بالسلطة، الذي خرج بعد أن اعتدى وظلم ونهب وسرق وأثرى ودمر ليصبح منادياً بالثورة على النظام الذي لم يكن شيئاً مذكوراً لولاه، ولم يكن ليسمع به أحد أو يشم رائحته المقززة لولا أنه امتطى عربة النظام التي جعلته سيداً، فأظهر للعالم كله أن الدولة تقاتل بعضها، وأن النظام يقاتل نفسه، وأن الحزب تشقق وابتعد بعضه عن بعض! ولو تابعنا فإننا لن نجد صورة لهؤلاء اليوم على الشاشة، وأغلبهم جلس اليوم متحسراً مهموماً، فقد خرج وزيراً أو أكثر، ولم يعد بإمكانه أن يعود ولو أدنى من ذلك بكثير.
وصنف أقل أهمية وأكثر خطورة، هو ذلك الذي حمل سلاحاً وأثرى، ونام على كومة من الدولارات فراشاً ومخدات، وأطلق شعارات وصار صاحب تجارة في أصقاع الدنيا، ويعيش في رغد مرتفع النسبة على أشلاء من جمعهم وغرر بهم.
وفي الداخل قفز من قفز، وانتهز الفرص منتهزوها، وتشكلت طبقات اجتماعية ومالية جديدة كل الجدة، وبعضها قديم وحافظ على دوره ومكانته، ولم يدر بخلد هؤلاء الذين كانوا في الداخل والخارج أن دورهم مرحلي ليس بفعل التخطيط السياسي وحسب، بل بفعل الحرب وأثرها ودورة الزمن الحقيقية، فقد أشار ابن خلدون في تاريخه إلى تعاقب الأمم والدول بين حالي الولادة والموت، وكل ذاك مرتبط بالإنسان وديمومته في جنسه لا في شخصه، ورحل الرحابنة، لكنهم تركوا ذلك في جبال الصوان وفي مجمل أعمالهم، فالطرحات السود لن تبقى سوداً، والتي توجست من «غربة» المتجذرة في الوطن والأرض والعطاء ابنة «مدلج»، اعترفت أنها كانت تخافها، لكنها بعد أن خبرتها أحبتها أكثر من الأرض، لأن الإنسان أبقى..
اليوم وقد وضعت الحرب مرساتها لتنطمر في البحر وتغادر حياة السوريين فوجئ كثيرون بما يجري على الأرض من محاربة للفساد، وكشف للخفايا، وبعضهم يحاول أن ينال من هذه الخطوات ويصفها كما يشاء، وكأنه في قرارة نفسه يرى أن محاربة الفساد غير مجدية! فهل المطلوب أن يستمر الفساد في تقلبه بين الناس؟ وهل يحزن الإنسان على من اغتال أحلامه ولقمته إن وقف أمام محاسبة المجتمع.
أنا ممن لا ينكرون سيرورة الحياة ولا الآخرة، لكنني مؤمن تمام الإيمان أن الحساب الأساس هنا وأن الجنة هنا، وأن الآخرة هنا، ولا أنتظر رؤية المذنب بين يدي الخالق، فحق العباد الذي لا يسامح فيه الله ولا يغفر يقضى هنا.
كل الذين باعوا أنفسهم للمال والفساد سيدفعون الأثمان باهظة هنا، وسيجدون ثمرة ما أخذوه، وسيؤخذ منهم كل قرش ملوناً بسمعتهم، وقد أكون متفائلاً، وتجري الأمور على الأرض بواقعية فلا يطال الأمر كثيراً من الفاسدين الذين يتخفون تحت ألف لبوس، لكنني مطمئن إلى أنهم سيعاقبون هنا في الحياة الدنيا، ولن ننتظر طويلاً.
كل الذين قفزوا من القعر ليظهروا سادة سيعودون إلى مكانتهم الحقيقية، وكم رأينا من الأمثلة في حياتنا، وعلى كل صعيد، ولم يبق من الناس إلا ما قدموه من خير ونفع للناس وأوطانهم، وهنا لن أفلسف الأمور دينياً بالثواب والعقاب، لأن من يضع في حسبانه الوازع الديني لن يجرؤ على أي نوع من الفساد.
وكل أولئك الذين تلطخت ربطات أعناقهم بدم السوريين حلّوها، وبدؤوا الحبو للحصول على مكاسب سرعان ما يجلسون بعدها للحساب، فالناس لا تنسى، والشعوب لا ترحم، وإن عاد أحدهم مظفراً حسب زعمه فإن ما قام به سيبقى في الذاكرة، وكل الذين ملؤوا جيوبهم وحقائبهم من العطايا والدولارات سيغيبون عن المشهد بلحظة واحدة بعد أن تكون حصيلتهم قد صارت بأسماء أخرى!
من غرر بروح فقتلها كيف ينجو؟
من جمع من الدم سيأكل الدم!
من استغل منصبه سيقضي ما تبقى في الندم!
من حاور الوطن ليسلبه بحنكة لن يجد وطناً يؤويه!
الآن بدأت مرحلة جديدة لن تقضي على الفساد حتماً، لأنه باق ما بقيت الحياة، لكنه سينحسر عن فكرة مأسسته لمصلحة طغمة من المصلحيين الذين لا يرون الوطن أهم منهم ومن مصالحهم وجيوبهم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن