ثقافة وفن

عطاء الميسورين للمعسرين يجعل الجميع يعيشون بحبوحة

| منير كيال

لئن حاولت الأزمة التي عاشتها بلادنا، بدوافع استعمارية وصهيونية، أن تشوّه ما انطبعت به سورية من أعمال البر والتوادَ والتحاب، فإن ذلك قد باء بالفشل، لما يجري بعروق دم أبناء سورية البررة من أصالة تجري بعروقهم وانطبعت بها حياتهم، أكان ذلك في تعاملهم وما يتطلّب ذلك من أخذ وعطاء، أم ما هم عليه من أعمال انعكست بالخير على الجميع، بل حتى على الحيوان، ومن ذلك ما قام به أهل البر واليسار من تقديم ما يلزم لبناء مشيدات لإقامة الوافدين إلى مدينة دمشق طلباً للعلم، إضافة إلى ما يلزم الواحد منهم من مأكل وملبس وحاجات دراسية.

وكذلك توفير مياه السبلان لتلبية حاجات الدور والمرافق العامة حسبة لوجه الله تعالى، حتى الناس من الممكن القول إن نظام الطوالع لتوفير المياه لأهل مدينة دمشق يعتبر أروع وأسمى نظام عرفته الإنسانية.
وكان عطاء الميسورين من أهل البر للمعسرين يجعل الجميع يعيشون بحبوحة نفسية تشعر بالاطمئنان، لأن الدنيا بخير، وذلك نتيجة لما يبذله الواحد منهم، أو أسرته، من عوائد أعمال البر، حتى إنّه لا يكاد يصادف امرأً ضاقت به سبل الحياة، فالجميع بخير، وإذا كان جاري بخير، فأنا بألف خير، بعد أن أخذت الجمعيات الخيرية تسعى لتوفير ما يلزم للمحتاجين. بعد التأكد من وضعهم المعيشي. عن كثب أو بزيارة مباشرة لهم، للتأكد إن المال الذي يقدم يذهب لأصحابه.
وإذا كان هذا التعاضد يبدو بحالات الضيق، فقد تجاوز ذلك إلى مناسبات أخرى، ومن ذلك الزواج، فما أن يرغب شاب في الزواج، حتى يلتفّ حوله الصحب يتقاسمون كل ما يلزم لإيصال صاحبهم إلى بيت الزوجية بعد أن يتكفل أحد صحبه بتقديم الدار أو مكان العرس وتكفل آخر بنفقات العرس، وآخر بملابس العرس، فضلاً عمن يتكفل لعراضة العرس وما يرافقها، وبالتالي حفل العرس والضيافة.
وأذكر على سبيل المثال ما حدثني به رئيس جمعية الشاغور الخيرية بدمشق، من أن كثيراً من أصحاب البر كانوا يقدمون الأموال والهبات راجين توزيعها على المحتاجين المستحقين، وعدم ذكر أسمائهم، لأن ما يقدمونه مال الله وللمعوزين حق بهذا المال.
ومن جهة أخرى، فإن من المنشآت العامة ما كان من أجل أعمال الخير للجميع، ومن ذلك الحمامات العامة قبل أن تتوافر الحمامات بالدور، كانت الحمامات من أبنية مدينة دمشق الخيرية، حيث كانت أغلب هذه الحمامات بجوار المساجد. وكان المرء يأتي إلى الحمام فيستحم من دون أجر، ويقدّم له إضافة لذلك قرصان من اللحم على العجين المعروف بالصفيحة، مقابل قراءة الفاتحة.
وكان من أعمال الخير التي أوقفها أهل هذه المدينة ما كان يطلق عليه اسم مرجة الحشيش، التي تحولت إلى ما يعرف باسم الملعب البلدي، ومن ثم تحولت إلى أرض المعرض، بعد أن استعيض على الملاعب بأجنحة معرض دمشق الدولي.
وقد كان يغطي هذه الأرض المرج الأخضر الذي تتخذ منه الخيول والسوائم العاجزة مكاناً لها وتقتات من ذلك المرج والمياه المتوافرة، ما دامت على قيد الحياة.
ونذكر من أعمال البر للحيوان بما يطلق عليه اسم مدرسة القطاط بحي القيمرية حيث تجد الهررة فيها ما يقدمه لها أهل اليسار وأمثالهم من طعام تعيش عليه هذه القطط إلى أن يوافيها الأجل.
ولعل ما يؤكّد ما ذهبنا إليه بهذا البحث، ما حدثنا به الرحالة ابن جبير الأندلسي، لدى زيارته مدينة دمشق بسياق رحلته إلى بلاد الحجاز، فمن ذلك قوله:
«دمشق جنّة الله في أرضه حباها الله الموقع والمياه فأتى أهلها، وتوجوها بالأزاهير، وكحلوها بالرياحين وفرشوا أرضها بالسندس النضير، ظل ظليل، وماء سلسبيل، ينساب على الأرض، انسياب الأراقم سئمت أرضها المياه حتى اشتاقت للظمأ حتى تكاد تناديك الصمّ الصلاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب».
وقد أجمع المؤرخون على اعتبار مدينة دمشق، أقدم مدينة سكنها الإنسان عبر التاريخ، ومن يتجوّل بأزقة وحارات هذه المدينة يلحظ دورها المتلاصقة المتراكبة المتعانقة المتآلفة، تعانق وتآلف أهلها، محبّة وإخاء، ومن ثم فإن المرء يلتمّس عبق تاريخ المدينة، بملء حنايا أوابدها التاريخية العريقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن