عربي ودولي

جمهورية الصين الشعبية بين التاريخ والمستقبل

| بقلم فادي الإسبر

عند قيام جمهورية الصين الشعبية في الأول من تشرين الأول عام ١٩٤٩، أعلن القائد التاريخي ماو تسي تونغ أن الصين عادت وتعافت من «قرن الإهانة». لكن عن أي إهانة تحدث ماو؟
إن الحضارة الصينية من أعمق وأقدم حضارات العالم، حيث تأسست أولى الإمبراطوريات الصينية في الألف الثاني قبل الميلاد. وكانت الصين مركز إشعاع حضاري كبير في آسيا ومركزاً للفلسفة والعلم، عدا عن كونها إحدى أكبر القوى الاقتصادية على امتداد التاريخ حيث ارتبطت بها التجارة العالمية- خاصة عبر طريق الحرير القديم- وذلك حتى مطلع القرن التاسع عشر، حيث كانت حصة الصين حينها نحو ربع الناتج الإجمالي العالمي. لكن، وبعد سلسلة حروب الأفيون بين عامي ١٨٣٩ و١٨٦٠، والتي منيت بها الصين بالهزيمة على يد القوى الأوروبية، تراجعت حصة الصين من الناتج الاقتصادي العالمي إلى أقل من ٥ بالمئة، ووقعت ضحية تقاسم القوى الاستعمارية، ومن ثم وقعت تحت الاحتلال الياباني المباشر والذي استمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. فغدا الصينيون يطلقون على المئة عام ونيف التي بدأت بحرب الأفيون وانتهت بجلاء القوات اليابانية وقيام جمهورية الصين الشعبية عام ١٩٤٩ بقرن الإهانة.
إلا أن تجربة الصين المريرة مع القوى الغربية لم تدفعها لتبني نهج عدواني في العلاقات الدولية، رغم امتلاكها قوة بشرية هائلة وفي وقت لاحق السلاح النووي. بل اعتمدت جمهورية الصين الشعبية منذ نشأتها، والتي تزامنت مع استعار الحرب الباردة، مبادئ «التعايش السلمي» والتي وضعها أول رئيس وزراء لجمهورية الصين الشعبية تشو انلاي عام ١٩٥٤ واعتمدت في مؤتمر باندونغ الشهير في عام ١٩٥٥ والذي انبثقت عنه حركة عدم الانحياز، التي كانت سورية عضواً فاعلاً فيها. ترتكز هذه المبادئ على الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة أراضي الدول وعدم الاعتداء أو التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، إضافة إلى التعايش السلمي والتعاون بشكل يحقق المنفعة المتبادلة. وناضلت جمهورية الصين الشعبية دبلوماسياً حتى انتزعت حقها في المقعد الدائم في مجلس الأمن عام ١٩٧٢، واجتنبت التورط في صراعات عسكرية مع الولايات المتحدة رغم غزو الأخيرة لكل من كوريا وفيتنام، جارتي الصين.
إن مبادئ التعايش السلمي التي اعتمدتها الصين نهجاً لسياستها الخارجية لم تكن ترفاً فكرياً، حيث مكنت العقود الطويلة من السلام والاستقرار الصين من تركيز طاقاتها ومواردها لتحقيق نهضة اقتصادية لم يشهد لها العالم مثيلاً في التاريخ. فمنذ البدء بتطبيق حزمة الإصلاحات الاقتصادية عام ١٩٧٨ وحتى عام ٢٠١٩ نما الناتج القومي الصيني من ١٥٠ ملياراً إلى ١٤ تريليون دولار، لتحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، مع توقعات بأن تتفوق الصين على منافستها بحلول عام ٢٠٣٠.
أدى النمو الاقتصادي الهائل في العقود الأخيرة إلى معجزة تنموية غير مسبوقة تمثلت بصعود أكثر من نصف مليار صيني من تحت خط الفقر تزامناً مع تحول الصين إلى أكبر اقتصاد صناعي في العالم وأكبر مصدر للبضائع بمختلف أنواعها. ففي بلد يبلغ عدد سكانه المليار وأربعمئة مليون نسمة لا تتجاوز نسبة البطالة اليوم ٣.٨ بالمئة، فيما سينمو اقتصاد الصين هذا العام بنسبة ٦.٢ بالمئة. وقد وضعت الحكومة الصينية عدة خطط إستراتيجية تضمن استمرار هذا النمو بل ودفعه إلى مستويات جديدة ومنها رؤية «صنع في الصين ٢٠٢٥» التي تطمح إلى أن تقود الصين العالم في مجالات صناعات التقنيات العالية والسيارات والفضاء والأدوية والروبوتات، كما وضعت الحكومة الصينية نصب عينيها أن تغدو الصين الدولة الأولى على مستوى العالم في مجال الذكاء الصناعي بحلول عام ٢٠٣٠، راصدة في سبيل ذلك ميزانيات هائلة مخصصة للبحث العلمي. إن كل ما تقدم من خطط يعتبر جزءاً من الرؤية الكبرى للمستقبل والتي وضعها الرئيس شي جين بينغ والتي تهدف إلى أن تغدو الصين الاقتصاد المتطور (developed economy) الأول في العالم مع حلول الذكرى المئوية لقيام جمهورية الصين الشعبية في عام ٢٠٤٩.
إن مبادئ التعايش السلمي واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية لا تزال في قلب السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية، وهي المبادئ نفسها التي دفعتها لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد عدة قرارات تمس سيادة سورية وسلامة أراضيها حاول الغرب تمريرها في مجلس الأمن الدولي منذ عام ٢٠١١، فيما تستمر الصين في التأكيد ضرورة توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب في سورية والالتزام بقرار مجلس الأمن ٢٢٥٤. كما رفضت الصين القرار الأميركي الأحادي الجانب بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان العربي السوري المحتل وأكدت ضرورة احترام قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨. لقد كانت الحرب على سورية والمواقف التي اتخذتها جمهورية الصين الشعبية خلالها إحدى أهم المؤشرات على بروزها كقطب أساسي في النظام الدولي في القرن الحادي والعشرين. وإن إصرار الصين على وضع مبادئ التعايش السلمي واحترام القوانين والشرعية الدولية في صلب سياستها الخارجية يعد بعالم أكثر توازناً وعدلاً وسلماً بعد ثلاثة عقود من الهيمنة الأميركية على النظام الدولي في أعقاب نهاية الحرب الباردة تلونت بكل أشكال عدم الاستقرار والحروب العدوانية والعقوبات الجائرة.
أما من الناحية الاقتصادية، تطرح جمهورية الصين الشعبية اليوم على العالم مبادرة الحزام والطريق، والتي تهدف إلى وضع آليات تعاون سياسي واقتصادي وثقافي بين الدول المنضمة إلى المبادرة (والتي تجاوز عددها الستين) لتحقيق التنمية المشتركة والمنفعة المتبادلة عبر إنشاء بنية تحتية حديثة تكون حجر الزاوية للتعاون والارتباط بين دول المبادرة عبر العالم، إضافة إلى إحداث الآليات المالية الضرورية لمواكبة هذا المشروع الضخم كالبنك الآسيوي للتنمية والاستثمار وصندوق مبادرة الحزام والطريق. تسعى الصين من خلال هذه المبادرة إلى نقل تجربتها الاقتصادية الرائدة إلى أي دولة ترغب بذلك. كما أن الحوار الحضاري والتبادل الثقافي في قلب مبادرة الحزام والطريق والتي تسعى لإحياء طريق الحرير القديم الذي وصل الشرق بالغرب حضارياً وتجارياً لقرون عديدة قبل عصر الهيمنة الأوروبية، حيث شكل هذا الطريق التاريخي جسراً للتبادل الحضاري عبرت من خلاله الأفكار والثقافات.
في خطابه الذي ألقاه في افتتاح أعمال اللقاء الوزاري الثامن لمنتدى التعاون بين الصين والدول العربية الذي عقد في بكين عام ٢٠١٨، أعلن الرئيس شي جين بينغ الاتفاق على تأسيس شراكة إستراتيجية بين الصين والعالم العربي. وبدورها، يجب أن تكون سورية في قلب مبادرة الحزام والطريق. فعبر تاريخها العريق، كانت سورية مركز إشعاع حضاري على طريق الحرير القديم وجسراً ثقافياً وتجارياً ربط حضارات العالم ببعضها البعض. واليوم، تطمح مبادرة الحزام والطريق إلى نظام دولي أكثر توازنا من الناحيتين السياسية والاقتصادية وأكثر انفتاحاً من النواحي الثقافية والحضارية، ولسورية مصلحة أساسية في ذلك. فكما كان للصين دور سياسي في منع التدخل الغربي في الشؤون الداخلية السورية، يمكن أن يكون للصين دور في عملية إعادة البناء في سورية ضمن إطار مبادرة الحزام والطريق وبعيداً عن الإجراءات القسرية الأحادية الجانب والمفروضة على سورية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك، فإن إرث سورية الحضاري والتاريخي يجب أن يكون في قلب أي عملية إعادة إحياء لطريق الحرير بمعانيه الثقافية والحضارية.
* باحث وعضو مجلس أمناء
مؤسسة وثيقة وطن

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن