قضايا وآراء

مكونان سوريان خارج التسوية السياسية

| عبد المنعم علي عيسى

إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش في افتتاح دورتها الـ74 في اليوم الثالث والعشرين من أيلول الماضي، عن التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن «اللجنة الدستورية»، يشير إلى الثقل الدولي الذي تحظى به الأزمة السورية والذي بات من الجائز اليوم القول إنها تمثل التحدي الأكبر مما تعرض له النظام الدولي الذي تأسس في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945.
شدة التعقيد هنا تتأتى من عوامل عدة أبرزها «طابقية» تلك الأزمة بأبعادها الثلاثة الداخلي والإقليمي والدولي، مع تسجيل ظواهر انحسار أحياناً، وتمدد في أحايين أخرى، لطابق على حساب آخر، أو لتثقيل أثر تفاعلي لطابقين على حساب الثالث مما زاد في تعقيد المشهد في مراحل عدة من عمر الأزمة، التي ما انفك السوريون يرزحون تحت وطأتها على مدى ثماني سنوات ونصف عجاف، فيما الآمال أن يذكرها التاريخ السوري على أنها «التسعة السوداء».
من المؤكد أن إعلان كهذا يشكل فاتحة لمسار إيجابي على الرغم مما سيعترض العربة من عقبات أو مطبات بعضها يبدو ملحوظاً أو متوقعاً، فيما من المؤكد أيضاً أن المسار ستعترضه مفاجآت تفترضها عملية الدخول في التفاصيل، ويفترضها أيضاً «البعد الخارجي» الذي لن يغيب بل سيشتد، وهو ما يتضح في آليات اعتماد مواد الدستور التي سيكون إقرارها بالتوافق فإن لم يكن فبالتصويت بنسبة 75 بالمئة، أي بتصويت 113 عضواً من أصل 150 هو العدد الإجمالي، وهو ما سيشكل حالة تشادٍّ كبيرة في إقرار مواد الدستور المفصلية والتي قد لا يكون من سبيل إلى تجاوزها سوى بفعل تليين المواقف عبر الأطراف الضامنة على ضفتي الصراع.
نشرت دائرة العلاقات الخارجية لـ«الإدارة الذاتية» التابعة لـ«مجلس سورية الديمقراطية» في 23 من أيلول المنصرم بياناً جاء فيه: «نحن لن نكون معنيين بأي مخرجات من دوننا» في إشارة إلى ردة فعل أولى عن إقصاء المكون الكردي من اللجنة الدستورية، وبعد يومين من هذا التاريخ الأخير نشر تنظيم «الإخوان المسلمين» بياناً أكد فيه أنه لا يوجد له أي تمثيل رسمي أو غير رسمي في قوائم اللجنة الدستورية التي كان قد جرى الإعلان عنها قبل يومين.
كلا الأمرين السابقين يؤكدان أن عملية إقصاء «الإدارة الذاتية» التي يسيطر عليها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي و«الإخوان المسلمين» باتت أمراً واقعاً وهي تمت بفعل حصيلة معقدة من التوافقات والرؤى والمواقف، وفي لحظ تلك العملية يمكن القول إن ثمة عوامل مشتركة تجمع ما بين الفصيلين من دون أن يعني ذلك أن هناك حالة من التحالف أو التوافق في المنهج أو الخط السياسي أو حتى في مفاهيمهما للتنظيم، بمعنى أن لا وجود لأي حالة تلاق جامعة ما بينهما في أحد المستويات الثلاثة السابقة التي لا بد لأي حزب أو تيار أو تنظيم أن يتبناها تمييزاً له عن باقي الأحزاب أو التيارات أو التنظيمات.
لم يشكل تنظيم «الإخوان المسلمين» في أي مرحلة من مراحل نشاطه بدءاً من عام 1945 الذي شهد ولادة التنظيم في سورية كاستنساخ للتنظيم الذي أسسه حسن البنا في مصر قبيل سبعة عشر عاماً من ذلك التاريخ، حالة وطنية نابعة من احتياجات الشارع السوري، بل على العكس كان على الدوام ممثلاً لمشروع عابر للحدود يتبنى الأيديولوجيا الإسلامية المتزمتة التي استولدتها فتاوى العصور الوسطى كوسيلة للنهوض بالمجتمعات العربية من دون إبداء أدنى درجات المرونة اللازمة لاستيعاب متغيرات الزمن وضرورات أخذها بعين الاعتبار، فقد ظلت الجماعة تتبنى على الدوام نموذج «الماضي» كحل وحيد لاستعادة النهضة في مواجهة نموذج «الغرب» الذي كانت تتبناه التيارات العلمانية المؤدلجة، وكان للإخوان في جميع مراحل نشاطهم، زمن الأزمات أو زمن السلم، مشروعاً وحيداً هو الوصول إلى السلطة، إلا أن السياسات في ذلك كانت تتلون تبعاً لعاملين اثنين أولهما حال السلطة القائمة بمعنى مدى قوتها أو ضعفها، وثانيهما مدى الدعم الإقليمي أو الدولي الذي يتلقونه، فهم تحركوا ما بعد منتصف السبعينيات من القرن الماضي استجابة لمناخ دولي وإقليمي كان ماضياً نحو محاصرة التمدد الإقليمي السوري في أعقاب حرب تشرين 1973 وتحديداً بعد الأول من حزيران 1976 اليوم الذي شهد عبور الدبابات السورية لبلدة المصنع الحدودية نحو العمق اللبناني، وفي السياق كان خيار اعتماد العنف هو خيار إستراتيجي ولربما يمكن رصد حالة التلون، تبعاً لحال السلطة، عبر مواقف التنظيم من حادثة شهيرة هي حادثة مجزرة المدفعية بحلب منتصف حزيران 1979 ففي أعقابها أعلن التنظيم عن مباركته للعملية، وإن كان قد قال إن تنظيم «الطليعة المقاتلة» الذي نفذها لم يكن قد تلقى أوامره من قيادة الإخوان قبيل أن يقدم على الفعل، ثم عاد الإخوان وتبرأوا منها عندما مالت موازين القوى لمصلحة الحكومة السورية ما بعد ربيع عام 1982، ثم لم تلبث أن تعالت أصوات قيادية في الإخوان تبارك تلك العملية إبان صدور قانون محاسبة سورية واغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري شباط 2005، ليعقبها إعادة تبرؤ من تلك العملية من جديد في أعقاب نجاح دمشق في احتواء الأزمة، قبيل أن يطلق اسم منفذ العملية «إبراهيم اليوسف» على كبرى المعارك التي واجهت بها الفصائل المعارضة الجيش السوري في حلب أواخر العام 2016.
ما نهدف إليه من السردية السابقة هو القول إن الإخوان المسلمين ليس لديهم سوى مشروع وحيد يرقى فوق النهج والأيديولوجيا هو مشروع الوصول إلى السلطة، وعندما تأكد لهم أن «الرافع» التركي لن يكون بمقدوره القيام بتلك المهمة كان الإعلان عن انسحابهم من مفاوضات تشكيل اللجنة الدستورية في تموز الماضي.
يمكن تلمس أولى الخيوط الظاهرة في مشروع الأكراد الانفصالي عبر أحداث القامشلي آذار 2004 بعدما أنعشت نظرية «ديمقراطية المكونات» التي أطلقها حاكم العراق الأميركي بول بريمر آمال الأكراد السوريين في إمكان نقل النظرية إلى التطبيق في سورية، كانت النظرية السابقة الذكر تقوم على توازن السلطة انطلاقاً من المكونات الطائفية والإثنية للبلاد، وإذ تبدى عدم صلاحية الظرف للسير قدماً كان القرار بالعودة إلى الشرنقة، وعندما لاحت أولى الفرص تغيرت المواقع فكانت موافقة الأكراد كطرف سوري وحيد على المبادرة التي أطلقتها الدوحة عام 2013 والتي كانت تقوم على إنشاء «طائف سوري» لم يوافق عليه حتى «الائتلاف السوري» المعارض، ثم لم تلبث الآمال أن انعقدت من جديد إبان الإعلان عن التحالف الأميركي لمحاربة داعش 2014 وفي حينها بدا الحلم وكأنه ماض نحو طرق فضاءات الواقع، ولربما تبدى للبعض أنه اكتسب مساحات أوسع من هذا الأخير مع تسلم المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا لمهامه في سورية، حتى إذا أطلق هذا الأخير وثيقة نيسان 2016 بدا جلياً الاستعداد الكردي لتلقف ما يدور في ذهنية «ستيفان بريمر» عبر خطوة استباقية سبقت الإعلان عن هذه الأخيرة عبر وثيقة إعلان الفيدرالية 17 آذار 2016.
قرار استبعاد الإخوان والأكراد هو حكم للتاريخ قبل أن يكون حالة تلاق في مصالح داخلية أو إقليمية أو دولية قررت في لحظة حرجة استبعاد كلا المكونين، فمشروع «الكانتونات» الخمس الذي أنشأته فرنسا زمن الانتداب لم يكن يملك مقومات الاستمرار بل ولم يصبح أمراً راسخاً في أي يوم من الأيام لسبب بسيط هو أن الذات السورية كانت ترفضه لأنها لا ترى فيه مجسداً لآمالها، في الوقت الذي كانت فيه تلك الذات تظهر في العديد من المراحل «ألماً» لا يمكن فهمه سوى عبر استحضار فقدان الكيان لأجزاء منه في الجنوب والغرب، ولا سورية يمكن حكمها عبر إحدى طبعات الإسلام السياسي «الجافة» التي لا تناسب احتياجات النهوض السوري الذي لن يكون سوى بخلطة جامعة ما بين علمانية قادرة على مواكبة العصر وهي تأخذ بعين الاعتبار ثقافة وروح الإسلام اللذان يغوصان عميقاً في ذاتنا الجماعية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن