قضايا وآراء

على مشارف يوبيلها الماسي

| عبد المنعم علي عيسى

في الثلث الأخير من شهر أيلول من كل عام يتداعى قادة وزعماء العالم أو من يمثلهم للحضور إلى نيويورك حيث مقر الأمانة العامة للأمم المتحدة لحضور اجتماعاتها التي كانت هذا العام في دورتها الـ74 أي إنها أوشكت بلوغ يوبيلها الماسي أو هي ستتمه العام القادم.
نشأت منظمة الأمم المتحدة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها صيف العام 1945 كبديل لعصبة الأمم التي تأسست في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهي كانت تعبيراً أكيداً عن نتائج الحرب التي سبقت تأسيسها والتي تبدت جلياً منذ ربيع هذا العام الأخير، وبتعبير أدق جاءت تلك المنظمة نتيجة لتوافق المنتصرين في رسم ملامح العالم الذي سيلي انتهاء الحرب التي أزهقت أرواح أكثر من ستين مليوناً من البشر في أكبر صراع دموي عرفه التاريخ حتى الآن.
لم تكن الأمم المتحدة في يوم من الأيام محفلاً قادراً على حل النزاعات أو فض الخلافات، كانت سوق «عكاظ» سياسياً يلجأ إليه المستضعفون لبث همومهم أو مظالمهم، أو كانت في أفضل حالاتها «كاتباً بالعدل» لكن غير ملحق به «دائرة تنفيذ» تتولى تنفيذ ما يكتبه بالعدل، واللافت هو أن هذه الصورة الأخيرة لم تكن في كثير من الحالات شفافة تماماً بل في كثير من الأحيان كان الكاتب بالعدل يمارس « الاحتيال» بل وكان يمارس أيضاً لعبة « الكشاتبين»، وإلا ماذا كانت تعني حالة التعاطي مع قضية شهد العالم بأسره بعدالتها وأقر بمظلوميتها؟ وهذه الحالة تبدت أكثر ما تبدت في الإشكالية التي خرج بها علينا مجلس الأمن بعيد استصدار القرار 242 في تشرين ثاني 1967 وما تنوقل في حينها، ولا يزال، من أن النص الإنكليزي للقرار يقول بـ«انسحاب إسرائيل من أراض عربية احتلتها في عدوان حزيران 1967»، ولم يكن المقصود به الانسحاب من «الأراضي العربية»، وعبر تلك الإشكالية، بات مصير شعب مرتبط بـ«ال» تعريف غائبة عن النص الإنكليزي الذي اعتمد في صياغة القرار.
أكثر ما يرسخ في الذاكرة هو ذلك المنبر ذو الخلفية الخضراء الداكنة، والذي شهد على مر المراحل وقوف المئات من زعماء العالم على عتباته، والبعض منهم كان قد سجل خروجاً لافتاً عن البروتوكول المقدس، الذي عمدت قيادات المنظمة للمحافظة عليه بوصفها أعلى «سلطة» عالمية أو هي رمز لتوافقات راسمة للأمن والسلم الدوليين، لكأنها كانت ترى في ذلك الهيكل جوهرها والباقي كله تفاصيل، فعلى ذلك المنبر وقف الرئيس السوفييتي السابق نيكيتا خروتشوف رافعاً حذاءه ثم راح يضرب به المنبر كمن يريد القول إن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العالم، والاستهتار عينه مارسه الرئيس الليبي السابق معمر القذافي الذي أمسك بميثاق الأمم المتحدة من على منبرها ثم راح يمزقه رامياً إياه وراءه، أما الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات فعندما أبرقت في ذهنه «أفكار» السادات المذهلة وكانت آنذاك جنيناً لا يعرف به سوى الأم والقابلة وبعض المقربين فإنه وقف على ذلك المنبر رافعاً غصن زيتون كشارة متعارف عليها لطلب السلام، والمؤكد أن ذلك السلوك كان مقدمة لوقوف خلفه محمود عباس على المنبر نفسه في أيلول 2019 ليقول بأن إسرائيل إذا ما ضمت أراض محتلة جديدة، يقصد بها غور الأردن، فسوف نلغي كل اتفاقاتنا معها، والمرير في الأمر هو أننا كنا لحظة رفع غصن الزيتون نطالب بحدود 4 حزيران 1967، وبتنا مع تهديد عباس آنف الذكر نطالب بأن تكتفي إسرائيل بما قضمت.
لم نفهم، نحن العرب، إبان صراعنا مع استعمار استيطاني هو الأحدث، صراع التوازنات أو المحاور العالمية أو بمعنى أدق ما يحركها أو كيف تميل أو ما الذي يلزم لحرفها عن مساراتها، في حين كان التركيز على المنبر الظاهر والذي نستطيع من عليه أن نبث شكوانا ونبرهن على مظلوميتنا، على الرغم من أن عكس ذلك كان متاحاً في العديد من المراحل، وعبر ذلك ضاعت كل الرهانات التي كان يمكن أن تكون صائبة بفعل آخر، بل إن رهان العدو وحده كان يمكن أن يكون هو الوحيد الخاطئ، فالرهان على عامل القوة وحده بالتأكيد رهان خاطئ لأن عوامل القوة متحولة وهي تقوم وتستمر تبعاً لعوامل عدة تتغير بدورها تبعاً لعوامل عدة.
يمكن لنا في هذا السياق أن نطرح إحصائية ذات دلالات باتجاهات عدة تمكن من استنباط العديد من المؤشرات في تحولات المحاور الفاعلة داخل «الصرح الأممي» المقدس، فما بين تأسيس الأمم المتحدة وبين انهيار نظام القطبية الثنائية، والذي يمكن تأريخه بقرار مجلس الأمن ذي الرقم 678 الخاص بتحرير الكويت والصادر في تشرين الثاني 1990، وهي مرحلة تمتد لـ46 سنة، أصدر فيها مجلس الأمن 678 قراراً أي بمعدل 14.7 قرار في السنة، وما بين1991 واليوم، أي بمرحلة تمتد لـ28 سنة، أصدر مجلس الأمن 1811 قراراً كان آخرها القرار 2489 الصادر في 17 أيلول الماضي والخاص بأفغانستان، أي بمعدل 62.44 قرار في السنة، وبالقياس ما بين المعدلين السابقين يظهر أن استصدار القرارات قد زاد في مرحلة القطب الواحد بمعدل 4.25 مرات في المرحلة الثانية عنه في المرحلة الأولى.
بالتأكيد ما يقف خلف هذه الظاهرة الأخيرة هو الوضع الجديد الذي سجل انفراداً أميركياً بالسيطرة على العالم، وهذا معطى يشير أو هو يؤكد أننا أضعنا فرصاً ذهبية ولى زمنها مع بدء هذا العصر الأخير ولربما يشير ذلك إلى «خشبية» السياسات العربية التي كانت تنظر كما يبدو إلى النظام الدولي السابق على أنه راسخ أو هو يتغير إن تغير النظام الشمسي فحسب، فخرائط التوازنات في العالم تتغير تبعاً لتحولات القوة ووفقاً لهذا المعيار الأخير اليوم فإن المنظمة التي تقف على مشارف يوبيلها الماسي من الصعب عليها أن تحلم، فيكون حلمها واقعياً، بأن تحتفل بمئويتها بعد ربع قرن من الآن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن