ثقافة وفن

لا شعور

| إسماعيل مروة

يتبارى الناس في إخفاء حقائقهم، للوصول في النهاية إليها، يعيش حياته المزيفة للوصول إلى حقيقة عندما يصل إليها يجدها مزيفة، وأن كل الزيف الذي عاشه هو الحقيقة التي أضاعها في رحلة بحثه عن الزيف الذي كان يظنه أجمل!
فهذا يعيش عمره لمحاربة طواحين فكره الهوائية ضد قيود الدين والسياسة والجنس وربما حاضر وكتب وتحدث للتخلص من فكرة يراها مسيطرة عليه، تسيّر حياته، وعندما يصل إلى المحطة الموعودة يجد أنه حارب كل عمره ضد ذاته، ذاته التي حاربت الدين، وهو شخص يلبسه الدين، ذاته التي حاربت لتحقيق العدالة السياسية، فيكتشف أنه عندما وصل إلى سدة السياسة كان أهم معتنقي مبادئ ميكافيللي في الأمير، وأنه شخص يحارب للوصول وتطبيق ذاته أو ذاته التي ادعت الفضيلة ومحاربة الجنس والعلاقات الجنسية، لكنه يحمل عهراً بحجم الكون، ويكتشف أنه كان يحاربه لأنه محروم منه، ويصب في مصلحة غيره وليس في مصلحته، ولم يملك الاعتراف مثل الشاعر الإنكليزي الذي قال مبكراً (وددت لو اجتمعت شفاه جميع النساء في شفة واحدة لقبلتها واسترحت) ذاته التي إن وجدت عاشقين حقدت عليهما، وربما طالبت بصلبهما بدعوى الفضيلة، لكنها عندما تكون هذه الذات معنية فالأمر مباح ومتاح، وليس من باب الحب، وإنما من باب التملك، التملك الوظيفي أو المادي أو المصلحي!
ربما كان الإنسان السوري بحاجة ماسة لحدوث هذه الحرب، هذه الحرب التي كشفت جوهر هذا التناقض الذي تربينا عليه، ليعرف زيف الكثير من القضايا التي يتحدث عنها ويجاهر بها، كان بحاجة إلى خضة عنيفة، جاءت وكانت أكثر من مجرد خضة، جاءت وكانت حرب إبادة للسوري من كل شذاذ الآفاق، ومن المفترض أن هذه الحرب التي استمرت كالحروب العالمية، وكانت أكثر دماراً ودموية بسبب التقدم، من المفترض أن تعلم السوري، وأن تعيده إلى حضارته التي له، وهو لا يدعيها من أذرعات إلى أنطاكية، لكن المتابع يجد النقيض، ففي الشارع تغير كل شيء، وتم اعتناق الأشياء السيئة، ولا نزال على الشاشات نشاهد من يتلفظ ليتحدث عن معرفته واكتشافاته، وكل ذلك في إطار محاربة الواقع للوصول إلى نتيجة كان يرفضها، وها هو اليوم يدافع عنها بكل ما أوتي من عمر اللغة والسياسة التي كان يظن أنه حاربها! فالذي قضى عمره يحارب الشرائع والتعصب صار شيخاً ومتحالفاً، وفي الوطن ما كان يجري سراً صار علناً ومسموحاً ومدعوماً، وتحوّل الوطن بقدرة قادر إلى جهتين شرعيتين إحداهما تواجه الأخرى! وتحول السياسيون إلى وعاظ لتكون الخاتمة بأن السياسيين يحاربون بعضهم بعضاً، وربما يحاربون أنفسهم، والوقود في الحالتين هم الأتباع الذين حتى بعد كل الحرب والاكتشافات ما زالوا يتبعون بطريقة عمياء، لأن الله في زعمهم هو من أراد، وهذا يحب المسؤول لأنه أعطاه هبة عبادة الله! وذاك ينسى عهر الخارج على القانون لأنه تحالف مع المتدين، ورفع شعاراً دينياً، بغض النظر عما إذا كان يعرف الدين أم لا يعرف!
لم يحاول أحد أن يضع الناس أمام حقيقتهم، فأغلبهم يقاتلون لأنهم لا يعرفون ما يقاتلون لأجله، ولأن بعض الجهد يمكن أن يبين الشرائع وخلافاتها إن وجدت كان لابد من الدخول فيما لا يمكن الخوض فيه حسب زعمهم، ففي كل جلسة وفي كل وقت وحين نجد من ينبري للحديث في قضايا عقيدية ووطنية وإيمانية لا يدرك فحواها ولا يعرف مؤداها! من بداية الحرب على سورية سمعت أناساً أعرفهم يرددون الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وهم لا علاقة لهم بالموضوع على الإطلاق، وكل ما يقوم به هو رصف هذه النصوص المقدسة، وفي كثير من الأحيان تكون الأغلاط في الضبط والقراءة علامة من علاماته، وليس له صفة مشيخية، بل هو علماني في حياته وتصرفاته، والاعتراض هنا ليس على أن يقول ويتحدث، فمن حق أي شخص أن يقول ويتحدث، لكن المشكلة التي ينبري لها هذا أو ذاك تظهر دون أدنى شك أن الخميرة التي يرتكز عليها هذا هي خميرة عقدية قادرة على جذبه حين تنتهي أعطيات السلطة، أو أعطيات المعارضة، في الوقت الذي يدعي أنه مختلف! اختلافه كان من منافعه، وما إن تنته هذه المنافع يعد إلى جذوره وأصوله وخميرته..!
لا شعور، هو الذي جعله قادراً على استرجاع ما استرجعه، والاسترجاع غير الواعي وغير الدارس الحقيقي للأمور يدل دلالة قاطعة على جهل، ومن ثم على تعصب أعمى تحكمه المصالح ولا يحكمه الفكر النبيل الذي انطلق منه..! مهما حاول الإنسان أن يخفي من حقيقته فإن جوهر الحقيقة فيه سيظهر ذات لحظة، سواء كان هذا الجوهر سلبياً أم إيجابياً، إلا أنه سيظهر ليبرز ما يمتلكه هذا الإنسان، فالمنع والرفض لا يؤديان نتائج إيجايبة، بل إن اصطراع الآراء والأفكار هو وحده القادر على إقناع المتلقين من الناس والجمهور والشعب، ولابد أن نتنبه إلى أن هذا الشعب قادر على الاصطفاء، ولو تمت محاورته لسخر المدلسون من أنفسهم لأنهم مكشوفون.
يكفي ممارسة التذاكي على الجمهور!
علينا أن ندرك أن الطفل يعي ما يدور في العالم الخارجي أكثر من وعي الكبار سناً.
علينا أن ندرك أن اللاشعور مفضوح لدى المتلقي أكثر منه لدى صاحبه.
الحقيقة لانصل إليها ولكننا يجب أن نعمل لمقاربتها ورصف النصوص وتحويلها إلى نصوص مقدسة لا يجدي نفعاً مع من يدعي غير ما هو عليه.
سيمضي عمره في شكل ويودع على هيئته التي يريدها وكان يعمل على اخفائها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن