الهروب الكبير!
عصام داري :
اليوم محجوز للكآبة والحزن الذي عاد يطرق بابي بقوة. أعرف أنني أنقلب على نفسي مئة وثمانين درجة، من محيطات تفاؤل وأمل، إلى ساقية حزينة، ونهر كآبة يهز خريره الوجدان، ويعيد ترتيب أولويات الحياة.
هكذا بلا مقدمات تهاجمك الكآبة ومن دون سابق إنذار أو سبب واضح، وتسأل نفسك كيف غزت هذه الكآبة القلب والروح والنفس، واحتلت كيانك واجتاحتك كلياً، من دون أدنى مقاومة!.
ربما كنت تنتظرها وتفرش لها الورود أملاً في لحظات حزن عميق.. عميق لا قرار له، تجلد فيها النفس، هناك من يعشق جلد النفس.
أعرف أن كل ما حولي يدعو للحزن والكآبة والموت البطيء، وأدرك أننا نعيش حالة انعدام وزن.. انعدام أخلاق.. انعدام أحلام، لكنني وأنا المتفائل بطبعي أجدني غير قادر على تغيير مناخ حل بنا كنت قادراً في السابق على نسفه من الجذور، وأن أحوّل الألوان القاتمة إلى ألوان زاهية، وأنقل نفسي البائسة من حزن جارف إلى فرح مؤقت، لكنه فرح على الأقل، أو نوع من فرح.
لكن هذه المرة كانت ضربة الكآبة قوية وساحقة لأنها جاءت من جهات عدة، وعلى شكل رشقات عشوائية تصيب القلب مباشرة، وتترك فيه ندوباً وجراحاً عصية على الدواء والشفاء. ودعت عدداً من الأصدقاء والأحبة راهنوا بحياتهم على أبواب أوروبا، بحثاً عن أنهار العسل وخوابي الخمر، يعرفون أن مغامرتهم قد تنتهي بالموت في البر أو البحر، لكنهم قرروا الرحيل وسجلوا أسماءهم في هذا الطابور الطويل الذاهب إلى المجهول، حتى لو كان معلوماً، وكان الهروب الكبير الذي جعل أوروبا تبتلع أبناءنا وإخوتنا، من دون أن يضمن أحد في الكون إمكانية عودتهم.
منعت دمعتي من مغادرة مخدعها، ورسمت شبه ابتسامة على شفتي اللتين تشققتا من شدة جفاف أصاب القلب والعروق، أردت أن تكون ليلة الوداع فرحة خفيفة الظل، كي لا يتذكر الهارب من نعيمنا إلى جحيم الغربة سوى ابتسامة باهتة، وليس دمعة مزقت الأجفان كي تتحرر من سجنها.
خجلت من دمعتي، فبكيت نحو الداخل، ما دمت منعتها من المغادرة مع المغادرين، واكتفيت ببكاء صامت مكبوت، بكاء على ما هو آت وليس فقط على رحيل من نحب.
سألت نفسي: هل يسعفني العمر وأرى عقد اللؤلؤ الذي انفرط على أرصفة أوروبا يتلألأ مرة أخرى في وطني؟. وهل يعود الهاربون إلى الجحيم من الجحيم كي نستعيد زمناً هرب مع الهاربين، واستوطن ذكريات عتيقة سكنت في غياهب النسيان؟.
شعرت أنني أرى أحبتي المغادرين آخر مرة، وقرأت في عيونهم سفراً من العذاب الآتي على دروب الغربة، لكنني كنت أخاف أكثر من الغربة في الوطن، ومن سوء النيات في هذا الوطن الذي يطعن فيه الأخ أخاه على الشبهة والشكوك الساكنة فينا وصارت من ألف باء حياتنا.
لكن من وسط العتمة والظلمة تلمع نجمة شرقية تترك لنا مساحة للتفاؤل، قصة حب هنا، في إحدى زوايا الوطن، سمها ما شئت: حب في زمن الحرب.. في زمن الكوليرا.. في زمن الموت المتنقل، لكنها قصة حب كزهرة جميلة تنبت من وسط الصخر الجلمود.
هكذا نحن كطائر الفينيق ننهض من وسط الرماد.