ثقافة وفن

أنا حتى الآن لا أزال أشعر بالمسؤولية تجاه مستقبل مصر الثقافي … فاروق حسني لـ«الوطن»: سورية بلاد رائعة الجمال وشعبها هو الأكثر قرباً وشبهاً من الشعب المصري

| القاهرة- لونا بوظو

الحوار العقلاني ميزة أصحاب الفكر المتعمق والثقافة الشاملة وعندما يكمل ذلك حس الرسم والتصوير المرهف ينتهي الحوار بالتأثير على نهج العقل وأحياناً على نوعيته. الفنان العالمي فاروق حسني يحمل في ذاته كل الميزات الفكرية والثقافية والفنية التي جعلته «وزيراً فوق العادة» لمدة تقارب ربع قرن عمل خلالها على ازدهار الحياة الفكرية والثقافية في مصر وإعطائها طابعها المميز على مستوى العالم، الأمر الذي أثار بشكل مرير حسد الحاقدين ودفعهم للمحاولة بشكل يائس لإحباط جهوده، إلا أن الحقيقة التي أكدت انتصار العقل الواقعي الواثق من حساباته الدقيقة عادت لترغم هؤلاء على تقديم اعتذاراتهم الممزوجة على الغالب بماء وجوههم.
من الأتيليه الخاصة به يطلق العنان لريشته لتترجم بحب وعفوية أحاسيسه المرهفة إلى لوحات ذات ألوان مشرقة مفعمة بالحياة حيث الإبداع والأصالة بأسمى درجاتها، كان لنا هذا اللقاء الحضاري مع وزير الثقافة المصرية الأسبق «فاروق حسني».

هل العمل الوزاري الروتيني كان يكبل انطلاق وجموح الفنان بداخلك وتوقه للحرية؟ وهل وجدت للتحرر من كرسي الوزارة مذاقاً آخر؟
عندما يكون الشخص المسؤول عن الحياة الثقافية ببلدة هو نفسه من العاملين فيها فهو لا يعمل شيئاً مستورداً لا يوجد بداخله، بل يجد هو نفسه بأن عملة هذا يتوحد مع تعبيره كفنان يرى الحياة الفنية بشعور وإدراك الفنان الأصيل، وأنا حاولت وبأقصى الإمكانات المتاحة لدي وبالأمانة المطلقة أن أؤدي واجبي كاملا خلال الـ24 عاماً وهي الفترة الزمنية التي توليت فيها منصب وزارة الثقافة، ولكن العمل في الشأن العام لم يبعدني يوماً عن فني بل العكس كان يعطيني حافزا قوياً وتحدياً لنفسي في أن ابتكر للفن، فأنا ولدت لأكون فناناً وليس سياسياً وكلما زادت الأعباء الوزارية كان يكبر التحدي داخلي لذلك ولم أنقطع عن الرسم وإقامة المعارض طوال حياتي. وأنا حتى الآن ما زلت أشعر بالمسؤولية تجاه مستقبل مصر الثقافي، لأن الثقافة تعتبر من أهم الخدمات الحيوية التي تقدم للمواطن المعاصر لذلك قمت بتأسيس «مؤسسة فاروق حسني للثقافة والفنون».

بهذه المناسبة أحب أن أهنئكم على افتتاح مؤسستكم الثقافية التي أطلقتموها مؤخراً ونرجو أن نتعرف منكم ولو بشكل موجز على أهم أهدافها والمبادئ التي تعمل في إطارها؟
هي مؤسسة خاصة ضمن مؤسسات المجتمع المدني تهدف لنشر الثقافة الراقية وجعلها من مكونات المجتمع المصري عن طريق تشجيع ودعم الشباب المبدعين في مختلف المجالات الفنية وذلك من خلال تنظّيم أنشطة ومسابقات متعددة، وسنبدأ هذا العام بمسابقة للفن التشكيلي ثم ستتوسع في العام المقبل لتشمل ثلاث مسابقات أخرى في التصميم الهندسي، القصة القصيرة والتصوير الضوئي، أيضاً المؤسسة تضم متحفاً يضم جميع مقتنياتي الفنية من لوحات ومنحوتات وأعمال فنية إضافة لمكتبة مهمة جداً وغنية بمحتوياتها.

في هذا السياق هل ترى أن الواقعية في الرسم مازالت تلقى رواجاً كالسابق على الرغم من تطور فنون التصوير الضوئي؟
الفن بكل ألوانه وأطيافه لا يزال يلقى رواجا لأنة يجسد ترجمة لأحاسيس ومشاعر الفنان ورؤاه والفنان يرتبط بحالة الواقع الحتمي حتى في مجال التجريد البحت، ولكن ربما الواقعية تعني أنك تحصرين نفسك في قالب معين، على حين إنساننا المعاصر متحرر ومتجاوب بحرية مع متغيرات العصر والحياة، وإيقاعاته متمردة على القوالب والأساليب الثابتة.

انتم ابن الأنفوشي في الإسكندرية ترى كيف أثرت بيئتك المحلية في تكوينك الفني؟
الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية لها سحر ومذاق خاص يتجلى بتنوع أطياف سكانها وتعايشهم بتآلف ومحبه، أجانب ومصريين. وبجمال مبانيها وروعة معالمها الأثرية كقصر رأس التين وقلعة قيتباي، وهذه المناطق اعتبرها علامات مميزة عرفتني على البعد الجمالي للحياة منذ الصغر، كذلك البحر إثر في تكويني بصخبه إلى درجة الخطورة عندما يكون كالوحش الرهيب أو بطيبته وبساطته عندما يصبح هادئاً جداً بحيث يخيل لك أن هذا الكيان الرهيب قد أصبح ناعساً لدرجة الطاعة.. بلونه سواء كان أزرق صافياً أم رمادياً وعندما سافرت بعد ذلك لباريس وجدت أن جمال الإسكندرية لا يقل بأي حال عن جمال باريس بل يزيد لوجود الأهل والأصدقاء فيها.

أمضيتم فترة طويلة من شبابكم في فرنسا كرئيس للمركز الثقافي المصري بباريس ومن ثم كمدير للأكاديمية المصرية في روما، كيف ترون الفائدة التي حصلتم عليها من معايشة الحياة الثقافية في فرنسا أولاً؟
في باريس مدينة النور تكونين مع أكبر سوق للفن في العالم ففيها المتاحف الرائعة كمتحف اللوفر، متحف الفن الحديث، ومتحف الأورانجيري، ومع فنون الموسيقا الجميلة التي يحبها المرء كالتي تقدمها دار الأوبرا الباريسية.. ومع الأدب الجميل حيث كبار الفلاسفة والأدباء والمفكرين.. فباريس هي النشاط الذهني الدائم حيث يستمتع الإنسان بجياته ويعايش أحلامه التي كانت معه من خلال ما قرأ وما سمع عنها، باريس بلد الألوان الرمادية التي قلما نجد فيها لونا حنونا يتجاوب مع عواطفنا، لكننا مع ذلك نحتاج إلى هذا في مواجهة ألوان الشرق الحارة. حتى يكون لدينا نوع من الاتزان العاطفي، فيها صادقت العديد من الأدباء والفنانين وأصبح لدي مجتمع جديد بلغة جديدة، وأنا عشت في باريس كما يقال بالطول والعرض، عشت فيها عيشة النبلاء وعيشة الصعلكة بآن واحد.

وماذا عن روما؟
روما مدينة ساحرة عريقة بحضارتها وفنها وإنسانيتها، عشت فيها مع الهدوء والطمأنينة ما أعادني للإنتاج والإبداع وكانت لي فيها لقاءات مهمة مع كبار المفكرين والفلاسفة والفنانين، والفترة الطويلة التي قضيتها فيها أثرت في حياتي الفنية وأمدتها بأكثر الذكريات حميمية.

وكيف انعكست خبرتكم في العمل في أهم عواصم الفن العالمية على عملكم كوزير للثقافة المصرية فيما بعد؟
خلال عملي هناك كنت أحرص على تقديم التاريخ والفن والأدب المصري بأبهى صورة للأجانب، وفي الوقت نفسه كان من ضمن الأشياء التي كنت أرصدها عملية البرمجة فتعلمت علم الإدارة وإيقاع تقديم الأنشطة الثقافية المتنوعة والمسافة الزمنية التي تفصل بين أي نشاط ثقافي وآخر ضمن جدول زمني منظم، وهذه الخبرات سهلت لي مهامي الوزارية وانعكست على أدائي فيها إذ وظفت جميع خبراتي لإبراز رسالة الثقافة المصرية للعالم الواسع وتوظيفها في جميع مجالات الحياة المعاصرة لتعطي الصورة الأبهى عن تطور الفكر الثقافي المصري وتنوعه على أكمل وجه وعلى المستوى نفسه التي تسوق فيها الثقافة العالمية، أنا لا أنكر أن الثقافة لديهم استقرت منذ عقود طويلة وأنهم متقدمون بالتقنيات والإمكانات المادية إلا أن مصر بالمقابل غنية بالإرث الثقافي الكبير من الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية، والتي تميزت بالعبقرية والخصوصية والعمق الإنساني والفلسفي الذي أثر في العالم وأمده بخلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني عبر العصور، ولا تزال البحوث والدراسات تنقب لتكتشف قيماً جديدة يوماً بعد يوم لتضيف للأجيال مخزوناً ثقافياً حياً.

الأرض المصرية شهدت أكثر الحضارات روعة وتقدماً وخاصة في مجال الفن، فما أهم المشاريع بنظركم التي أنجزت خلال مهمتكم العامة؟
برأيي أهم إنجاز قمت به هو تحديث الهيكل الأساسي والرؤى الثقافية المصرية على كل الصعد رغم جميع التحديات الكبيرة والمعوقات التي واجهتني بسبب رفض الكثير من النخبة الثقافية لعملية التجديد وهذه حالة المجتمعات عامة ترفض التجديد حتى تعتاده فيما بعد، وأنا كانت لدي رغبة جامحة وإصرار ثابت مبني على دوافع عقلية موضوعية ومنذ اليوم الأول لي في كرسي الوزارة لتجديد وتغيير المشهد الثقافي المصري الذي توقف عند ستينيات القرن الماضي على حين كنا حينها على مشارف التسعينيات، لذلك قمنا بوضع برامج وخطط إستراتيجية شاملة للنهوض بالحركة الثقافية والفنية في مصر لتستعيد المكانة اللائقة بها في عالمنا الحضاري، وابتدأنا بإصلاح البنية التحتية وتوفير الأماكن المناسبة والمناخ الملائم لرعاية الأدباء والمفكرين والفنانين، كما وضعنا أفكاراً ورؤى ثقافية جديدة لتحفيز المبدعين وجهزنا لها العتاد الثقافي اللازم بمختلف ألوانه من دون تفضيل أي لون على الآخر لأنها مجتمعة تصنع لوحة فسيفسائية رائعة الجمال تتناسب مع تاريخ مصر الحضاري العريق.

لاقت مشاريعكم الضخمة كترميم تمثال «أبو الهول» وإنشاء متحف الحضارة ومشروع القرن «المتحف الكبير» الذي سيفتتح العام القادم اهتمام ورغبة العالم من أجل المساعدة في إنجازها خلال وقت قصير جداً، ترى كيف ترى عصر العولمة بإحساس وإدراك الفنان الأصيل؟
أنا أرى أن العالم لا يعدو أن يكون مسرحاً واسعاً لتجربة متكاملة من أجل البحث عن التعبير الأمثل للأداء فيه من الذين حضروا ويحضرون عليه بفعالية تستحق منا متابعتها والمشاركة فيها واغتنائها، فالفنان الأصيل عندما يسافر لدولة أخرى أول شيء يحاول الاطلاع عليه هو متاحفها ومسارحها واقتناء منتجاتها الثقافية.
والتقنيات الحديثة تساعدنا كثيراً في اهتماماتنا هذه، وفي الوقت نفسه تدفعنا للتحدي والمنافسة عبر وسائطها الإلكترونية المختلفة، وهكذا نرى أن عصر العولمة في الوقت الذي يزيد من عمق معرفتنا وارتباطنا بالإنجازات الثقافية عبر العصور، يحدث رؤانا الثقافية ويرغمها على التحدي والمنافسة، وأنا أفضّل الانفتاح على جميع الثقافات العالمية ولا أرى أي مبرر للقلق فنحن استطعنا ترك بصمة في خريطة العالم الثقافية من خلال المشروعات الكبيرة الناجحة التي أنجزناها، أيضاً الاهتمام بالتنوع الثقافي الذي يسهم في إثراء العولمة لذلك كنت أحرص على تقديم ثقافة متنوعة ابتداء من الثقافة الشعبية كمزامير الصعيد إلى السيمفوني والأوبرا، إلى تأسيس المتاحف وتطوير العديد من المواقع الأثرية إلى ترميم الآثار، فقد رممنا ما يقرب من أكثر من 433 أثراً إسلامياً في القاهرة كشارع المعز أقدم شوارع القاهرة الإسلامية.
نحن غالباً ما نسمع أغلب الفنانين يشكون بل يسخرون من بعض الانتقادات الموجهة لهم من نقاد لم تكن لهم أي تجربة فنية ويعتقدون أن محاولة نقد عمل فني أمر سهل لا يخضع لأي معايير علمية موضوعيه، ما رأيكم حول هذا الموضوع؟
نعم هذا صحيح لأنه ومع الأسف النقاد المميزون لدينا عددهم لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة والسبب برأيي يعود لعدم وجود مدارس نقدية علمية واعية ومدركة لأهمية العملية النقدية التي تقوم على تذوق وفهم الجمال وعلى الدراسة المتخصصة الأدبية والموسيقية والتشكيلية، فقيمة العمل النقدي توازي القيمة المبدعة للفنان والإبداع الفني لا يرتقي من دون وجود نقد بناء، فالناقد هو من يفسر القيم الجمالية والتعبيرية لمكونات العمل الفني ويوصلها للمتلقي، لذلك تقدم العملية الفنية مشروط بوجود نقاد أكفياء.

متى يشعر الفنان فاروق حسني بلحظة الإبداع؟ وما مصادره المهمة؟
لا أحد يستطيع التكهن بوقت لحظة الإبداع أو التحكم بها، فهي قد تأتي في أي لحظة وفي أي مكان كالشاعر الذي قد تباغته وهو يرتاد المواصلات مثلا، ولذلك أوجدت هنا في مؤسستي أتيليه «ورشة» صغيرة وأخرى كبيرة في منزلي تحسباً لمجيئها، أما مصادر إلهامي فهي غير محددة، قد تكون أحياناً من الطبيعة، أحياناً من الإحساس العاطفي أو الاندفاع للخروج عن التقاليد، أو من لحظة تأمل في أماكن نائية، ويجب ألا ننسى أيضاً أن شجون الماضي تؤدي بأشياء الحاضر للظهور، وفي أغلب الأحيان الحلم أيضاً.

يقول علماء النفس بإصرار يؤيده الواقع دائماً: إن الفرق بين الجنون والعبقرية في الحلم، هو الفرق بين أن يكون لدينا خيال تعويضي نهرب منه من واقعنا الرديء أو أن يكون لدينا خيال تصميمي يكون مشروعاً لحياة أفضل، ترى أين مكان الحلم بين هاتين المقولتين برأيك؟
الحلم لدى الفنان هو أكثر ما تقدمه له حواسه الخمس عن الواقع، وهذا ما يشد الفنان للحلم، لكنك مع ذلك لن تستطيع أن تحلم إلى ما لانهاية، فصلابة الحياة الحديثة لا بد من أن تستدرجك من جديد إليها غالباً رغماً عنك للتصميم من أجل حياة توافق أحلامك أو على الأقل لا تتعارض معها.

وما الهدف الذي ستنتهي إليه هذه الأحلام؟
بالنسبة لي حلمي يعني لي أن أعطي فطموحاتي تنحصر في رسالة العطاء التي أعتقد أنها تقع على عاتقي وتعطيني قيمتي في نظري وتمنحني في الوقت نفسه شعوري بالاكتفاء. على حين يتوجه ذهني نحو الآفاق اللامتناهية حيث لا شيء محدداً أرغب في الحصول عليه، فالذي يعطي هو فقط الذي يشعر في الاكتفاء وأنا دائماً أحب مقاسمة الآخرين أشيائي وأوقاتي الجميلة التي يصنعها لي حلمي.

وكيف ترى العلاقة الثقافية بين مصر وسورية من خلال فترة ترؤسكم لحقيبة الثقافة المصرية ومن مشاهدتكم الشخصية كفنان؟
سورية بلاد رائعة الجمال تربطها مع مصر علاقة تاريخية سياسية ثقافية إبداعية مشتركة، والشعب السوري هو أقرب شعب للشعب المصري، فربما التشابه بين الشعب المصري وبقية الشعوب العربية يكون بالشكل أما مع الشعب السوري فيكون بالشكل والمضمون فلديهم التوجه نفسه والأحاسيس نفسها بالأشياء، وأنا عشت في شبابي المبكر حلم الوحدة والإقليم الشمالي والإقليم الجنوبي، وفي أوروبا كان لدي أصدقاء من أدباء وفنانين تشكيليين سوريين كالشاعر الكبير نزار قباني والأديب حنا مينه ووزيرة الثقافة نجاح العطار التي قدمت الكثير من الإنجازات الرائعة في سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن