الفيلسوف والنبي كلاهما امتلك مشروعاً واحداً، التقيا أم اختلفا، نعترف أن من دونهما ما كانت هناك ثوابت وقيم تنظم مجتمعاتنا، فاتجاههما يشير إلى سعيهما بالوصول إلى بناء المدينة الفاضلة، ولذلك نجدهما ذهبا من دون التقاء إلى البحث عن المنفعة التي تكون غاية المعرفة الإنسانية، فالمناداة للمعرفة ودعوة الناس لينهلوا منها تحملان الدعوات ذاتها التي قام بها دعاة تطوير النظم الإنسانية، مع فارق أن المعرفة عامة والنبوّات تخصص ديني إلهي، اتجهت إلى فهم جوهر إرادة الخالق، التي أرادت أن يكون هناك إنسان أوجده في أحسن صورة، ليكون بين الشيطان والملائكة، ومناداته أن يهتم بأخيه الإنسان، فلا يريده أن يكون ملاكاً، وأوجد له النبوّات والفلاسفة والمفكرين كي لا يصبح شيطاناً، أو حتى يتشيطن، فكان أن أعطاه المعرفة التي يكمن بها غرضها الرئيس في تسخير الطبيعة لمقتضياته، وتوجيه قوانينها لإفادة ليس وجوده الفردي، بل البشر والمجتمعات، من باب تمكينه من توسيع للرؤية، ومن ثم اختيار ما يفيده تحت مظلة القوانين الوضعية، وما يرافقها من عدالة كونية نطلق عليها العدالة الإلهية، إضافة إلى ما بنته في جوهرها النبوّات، ليصل إلى إنشاء حياة حديثة، أو يعمل على تحديث ما هو فيه من خلال استيعاب كل جديد، وهنا أقول: ليس لنا من سبيل لفهم الحياة إلا أن نسلك سبل فهم الطبيعة، التي إن وصلنا إلى حدودها أرتنا نظمها، وأخذت بنا إلى الخروج من العقل الشرقي المتمترس خلف أدبياته الروحية وتغلفه بالديانات والرسل والأنبياء والخلفاء والملوك والأمراء إلى فهم الحياة التي تطوّر البصيرة المعتمدة على البحث البصري، ومن ثم العمل البنائي.
لا شيء مهما بلغ من الصغر إلا وله ظل يتابعه كيفما اتجه، حيث يسعى لكمال يحقق في طريقه الانتصار، شريطة أن ينتصر على الخطيئة أولاً، وأن يمتلك الإصرار على المثابرة، لأنه في ذلك يكون قد حقق انتصاره الثاني، فالذي يدقق في بنائه يجد أن الكمال مسكون عقلي، وإلى جانبه يتطلع عليه النقص الذي يشعر بأنه يراقبه، لذلك نجده يسعى طوال وجوده للوصول إليه، ما يجعلنا نسأل: هل يكتفي الإنسان بالفرجة على هذه الحياة؟ وهل يستطيع أن يحيا وحيداً؟ ومن يقدر فهو إما حيوان شارد أو إله آبد، ألا يجب أن يعترف أنه لاعب رئيس فيها، وأن عليه السعي لسد النقص من باب الاجتهاد المتواصل؟ ألا يكون معنى الزهد الدقيق في مزج العلم بالحياة؟ وبهذا يتم تسخير الطبيعة والاستفادة من نظمها، فإذا علم الإنسان امتلك في يده نظم تأسيس حظّه، وتشييد بنائه.
إنها وليمة فكرية باذخة في رفاهيتها، تصيب المتأملين والباحثين المتفكرين، ومعهم المؤمنون، تدعوكم لتنهلوا من فوائدها، وأن تصيبوا من يمارسون الجهل أو التجهيل بسعيكم لإحداث التنوير، ليظهركم كجامعي رسائل النبوة وفلسفة الحكمة والمعرفة، لأن هناك من يعمل على عدم الوصول إلى فوائدها، لهذا اختاروا من تكونون، وإذا انتفعتم من علومهما امتلكتم الخطوة الكبرى على طريق عصر النهضة، الذي فرَّق بين اللاهوت والفلسفة، وبين علوم الدنيا وعلوم الآخرة، وإذا عرف الناس أن العلم وما يصل إليه يدور في حياتنا، ومن أجلها يعني أننا نجحنا، لأن علوم السماء تختفي معنا في باطن الأرض، بعد أن نرتمي في مجاهلها، ومما لا نكران له أن الحوادث التي تقع في حياتنا، يرجعها الكثرة إلى ثقافة بدائية، تتجلى في الحظ والمصادفة، كالحظوة والفرصة وتوافق الأحوال وحسن المناسبات وموت الآخرين من دون دراية في ذات الإنسان، بأن يسبك قالب حظه بيديه، ليخفيه فيه.
هذا يدعونا إلى حرية البحث التي أغلقت في عقول المفكرين والفلاسفة، وأخذت بالمجتمعات لتقديس النصوص بدلاً من قبول المحاسبة في العقائد الموروثة وكف الحماسة عن تقييد الفكر والضمير، ولنتجه لنكون أبناء زمننا سباقين ومعاصرين بالنظر إلى واقع الأحداث وتقديم الرؤى الحصينة، وما بحثنا لاستدراك النقص كوجودنا في الطبيعة، لذلك أقول: تعالوا لنتعلم الحكمة، فما فائدتها بعد فوات الأوان، فكلما أسرعت فيهما ضللت السبيل وقوانينها كنسيج العناكب تقع فيها صغار الأحياء، وتعصف بالكبار رغم محاولات نجاتهم منها.
النبوة لم تفند في توصيف الكتاب المكنون، ولم يدخل فكرها توصيف الدين وتقسيمه إلى مذاهب وطوائف وشيع، ولم تمارس الإثارة كما فعل مفكروها وأئمتها بعدها، واستمروا حتى اللحظة، وعندما جرى الحديث عن يد الله واستوائه على العرش وبصره وسمعه، قصد أن الإنسان على شاكلته وخليفته، هل يعقل أن يكون خليفته ملاكاً أو شيطاناً، فكان الإنسان الذي وجد ليبحث ويفكر ويغوص وينتج ويبدع من أجل مَنْ أولاً وأخيراً؟ من أجل الإنسان. لا فلسفة في الإسلام ولا فلاسفة، إنما مفكرون إسلاميون حصروا جلّ تفكيرهم في الله، وما أودعه في فكر نبوتهم، رفضوا بموجب ذلك أي نقد علمي أو حوار فلسفي حول التسليم والغيبي، وأقدر أن أقول: إن المفكرين الإسلاميين تناقلوا تاريخ النبوة والإله، وداروا حولهما فقط، وأنجزوا الفقه والسنة والأحاديث القوية والضعيفة، وفتحوا لها الأبواب، حيث إن كل من يتحدث من الأئمة يستطيع أن ينسب حديثه إلى النبوة، ولا أحد يقدر على دحضه لمجرد أن يبدأ بـ عن، أو قال النبي، ولم يقدروا على إظهار قيمة العمل العقلي للمسلم إلا في النواحي الإلهية وآثار تطور العقيدة الإسلامية، أما الفلسفة والفلاسفة فاتجهوا إلى العمل العقلي، وشجعوا الاستثمار العلمي فيه، بعد أن استخدموا الشك والفرضية، وخروجهم بنظرية تكون نتائجها يقيناً مع إمكانية تطويرها أو نسفها من جديد، مستندين إلى الاستكشاف والبحث والتدقيق في الموجودات، من دون إهمال لليقين في الموجد الأول، الذي تناولوا البحث عنه شكلاً، وصولاً إلى تعزيز الإيمان واليقين، فالفلسفة خصوصية الإنسان في حياته المادية والروحية والإيمان، والأديان خصوصية في الله ورسله وأنبيائه وكتبه، وهنا أجدني أتخصص في الإنسان العربي، الذي اعتنق أغلب الديانات بحكم ولادتها وظهورها على أرضه التي أوصلته إلى الإسلام، مع استمرار ولادة ديانات، لأقول: إن هذا الإنسان ممتلئ بصفات التأمل العميق والتفكير الإبداعي والابتكار في الرأي والعمل وإيجاد الحلول، نظراً لما عاصره عبر كامل الحقب من أزمات وحروب وفتن، ومع ذلك وقع في خطيئة كبرى، وأقولها بدقة، لأنه جرى حصره بين النقل والنقد والاعتراض واعتماده على الآخر، وإذا بحثنا في خصائصه العقلية لوجدناها متماثلة مع الآخر، وتتفوق عليه بحكم نقائها وعدم الاستثمار النوعي والدقيق فيها، وإخراجه من هذا يعني إبعاده عن الأسطورة والماورائيات وتوجيهه إلى الواقع كي ينخرط فيه، ويعالج مشكلاته، وهذا لا يحدث إلا عندما نمتلك قوة اليقين التي تفهمنا حقائق مجريات الأمور، وهنا أسأل: هل هناك من مشكلة أو تعارض إذا وصل الإنسان إلى مرتبة أن يكون مؤمناً ومفكراً أو فيلسوفاً، وأن أعتقد أن لا ضير في أن تجتمع نزعات متعددة من دون تعارض، فالحقيقة الواحدة لها عدة وجوه، ومن الممكن الإيمان بها رغم اختلاف وجوهها، وإذا كنت أرى أن الأخلاق تصل إلى مرتبة الدين، فهل يمكن أن يكون الدين أخلاقاً، الذي أعتبره حضر كي يعيد للأخلاق حضورها، فهل فهمنا أسباب حضوره.
الكمال ثابت، النقص تجربة، والفارق بينهما أن التجربة تنبئنا عن الأمور الواقعية، تعرضها علينا، تفسر لنا ما لدينا من يقين، أما الكمال فهو العدالة التي يحلم بها الإنسان، مهما بلغ شأنه أو صغر، وما نحن البشر إلا متطلعون دائمون لهما، فهل نصل إليهما؟