رغم الألم الذي تشعر به وأنت تشاهد قوة خارجية تقصف أرضك وتتوغل فيها، إلا أن ما هو أشد ألماً من هذا، هو الخزي من اليقين أن هذا كله يجري بالتعاون والمشاركة الميدانية والعلنية لمواطنين سوريين محليين، أقسموا ولاءهم لتركيا المحتلة، ولحزبها الحاكم الواعد باستعادة أمجاد السلطنة المدفونة منذ مئة عام، فحملوا بندقيته، وطبعوا علمه على جباههم، وصاحوا باسم حاكمه، هو ذاته الذي لا يجده أكثر من خمسين بالمئة من شعبه سوى طاغية انتهازي وفاسد وضيع.
يحملون السلاح معه في تنكر للأصل والأمة والتاريخ، وبطريقة لا تختلف كثيراً عن عدوهم المفترض الآن، الذي يتهمونه بمحاولة التقسيم، بتحالفه مع أشرس قوى العالم وأسوئها سمعة في تاريخ البشرية الحديث، لينمي نفوذه، ويسرق ثروات وطنه بحثاً عن حلم عمره مئات السنين، منشقاً عن الدولة والأمة، ومتاجراً بثرواتها للغريب والقريب.
فعبر التاريخ كان وجود الخائن عند الخصم، هو أكبر نقاط القوة عند أي عدو، ورغم أن كثراً من القادة التاريخيين لم يكافئوا خائناً لأنه من تلك الفئة التي لا تستحق الثقة أو التبجيل، إلا أن كثرتهم في حالتنا الآن لا تترك مجالاً للهروب من مواجهة الذات مستقبلاً.
هذه المواجهة التي لم يسبق لها أن حصلت، وكانت ضرورية ضرورة التطهير قبل شق الجسد، لا مفر منها الآن، إن كان للسوريين أن يضعوا أسس مستقبلهم ويشقوا الدروب وصولاً إليه.
لقد جندت دول بعينها، بعضها العربي وبعضها من غير العرب، جيوشاً من السوريين ضد بلدهم. ولا يجري الحديث هنا عن العداء للدولة أو الحكم، وإنما التنكر التام للهوية والعلم والتاريخ، واعتبار البلد لمة من الأشخاص وبضع ذكريات في سراديب حارة ما فقط.
وكل يوم وأنت تمر مروراً سريعاً على وسائل الإعلام محاولاً قدر الإمكان ألا تفسد يومك، بالغث الذي فيها، ينط المتطوعون للدفاع عن مصالح عدو من الأعداء، من دون خجل، ولا استحياء، فعلى حين يدخل جيش تركيا محتلاً باعتراف الجميع، عدا إمبراطورية الإعلام القطري طبعاً، يبدأ من دفعتهم غيرتهم على شعبهم وسلامته، للحديث عن الفوائد التي سيجنيها السوريون من الجامعات التركية والمعاهد التي ستقام في الأراضي المحتلة، وعن الازدهار الاقتصادي القادم لتلك المناطق، تماماً كما كان الأمر لقلة من الفلسطينيين واللبنانيين حين دخلت إسرائيل جنوب لبنان.
وفي لبنان كان أستاذ في الإعلام يقول: إن «الخيانة وجهة نظر»، وقد باتت في عالمنا العربي، وتحديداً في مشرقه مهنة، يتطوع صاحبها بخبراته وعلاقاته السابقة، وموهبته إن وجدت، لخدمة عدو بلده، بحجة أن عدوه عدوي، من دون أن يشغّل الحجة الأخلاقية المتمثلة في تجسيد البلد كأمة وجغرافيا وتاريخ، وعلاقات عيش مشترك، قبل أن يكون هذا البلد حاكماً، أو شخصاً أو طبيعة حكم.
هذا السعي لإرداء الخيانة ثوب حجة سياسية، هو الثوب ذاته الذي يغلف فيه مسؤول فاسد صفقاته على حساب أهله وأمته، وهو ذاته الذي يرتديه المجرم حين يقوم بالقتل بحجة الشرف.
خراب كبير، هذا الذي نحن فيه، وهذا الذي تتفتح عليه عيوننا كل يوم. خراب لن ينتصر عليه أحد. فالرابح الوحيد هو ذلك العدو المغروز في خاصرتنا الجغرافية، الذي يراقبنا ساخراً، على حين أبناؤه يحققون حلمه في النمو والتقدم.