يتساءل الإنسان هذه الأيام لماذا يشاهد الأخبار ولماذا يستمع إلى تصريحات مسؤولين مغلفة بالكذب والنفاق على شعوبهم وشعوب العالم قاطبة، حيث لا خجل ولا حياء من إطلاق التصريحات التي تتناقض كلياً مع ما تشهده الأرض من أحداث وتطورات. إذ أصبح على المهتم بالشأن العام أن يقرأ ويحلّل ويعيد القراءة والتحليل حتى يتمكن من استنباط جزء من الحقيقة هنا وآخر هناك، لأن هدف بعض هذه التصريحات هو التغطية على ما يجري وتضليل القارئ والمهتم بدلاً من تنويره وإعلامه. في هذا الزمن الذي تراجع به المستوى الأخلاقي للقيادات السياسية إلى درجة متدنية غير مسبوقة كانت المصداقية أولى الضحايا، ولذلك نرى أن ردود الأفعال تائهة في اتجاهات مختلفة.
فقد طغى خبر العدوان التركي على الأراضي السورية في الأيام القليلة الماضية وتكررت الأخبار عن الجيش التركي « والقوات التابعة له»، ولكنّ الحقيقة هي أن القوات التابعة له هي من العصابات الإرهابية بمن فيهم داعش والنصرة والجيش الحرّ وغيرهم من المرتزقة، والذين أُدخلوا من الحدود التركية منذ سنوات بقيادات وسيطة من واجهات المعارضات الساكنة في الفنادق النائية. واليوم بعد أن فشلوا في تحقيق الأهداف المرسومة لهم ظهرت القيادة الحقيقية لهذه الحرب الإرهابية على سورية ألا وهي قيادة أردوغان العثماني الذي يتخذ من الإخوان المسلمين أداةً لاختراق مجتمعات الشرق العربي بهدف إعادتها للعبودية التركية تحت لافتات «طائفية». يتذرع أردوغان بذرائع واهية لمحاولة تحقيق حلمه العثماني بابتلاع المزيد من الأراضي السورية والعراقية أيضاً. ويظهر التواطؤ الأميركي والأنظمة العربية التابعة للولايات المتحدة مع هذا المخطط أيضاً والذي احتضن وموّل وسلح ودرّب منذ البداية، العصابات الإرهابية في مناطق مختلفة من سورية والعراق وليبيا واليمن، لنسمع تصريحات تهدد بالعقوبات على تركيا وأخرى تهدد بالتسبب في انهيار الاقتصاد التركي وإصدار قرارات ضد ما سمّوه «التوغل» والذي هو عدوان مجرم وموصوف، إلى أن تقرأ تصريحاً خجولاً عابراً يقول: إن معلوماتنا تفيد بأن العملية التركية في شمال سورية هي عملية محدودة، ونلاحظ في الميدان تواطؤ قوات قسد العميلة مع هذه العملية ما يفيد أيضاً بأن التنسيق جارٍ مع مرتزقة قسد أيضاً للسماح لهذا العدوان التركي على الأراضي السورية وعدم مقاومته، لأن هناك اتفاقاً ما بين كلّ هذه الأطراف للسماح لهذا العدوان بتحقيق الأهداف المتفق عليها بين هذه الأطراف المعتدية على السيادة والأراضي السورية بوسائل مختلفة منذ ثماني سنوات ونيف. وها هي العصابات الإرهابية بقيادة تركية تكمل أعمال الإرهابيين باستهداف المشافي والمخابز والمدارس وقتل المدنيين والتسبب في هجرتهم من أرضهم وديارهم كي يتمكن العثماني أردوغان من المتاجرة بهم مرة أخرى أمام الأوروبيين وكي يهددهم بفتح معبر لمن تسبب هو وأدواته من الإرهابيين بتدمير قراهم ومدنهم وسبل عيشهم وارتكاب جرائم بشعة بحقهم وتحويلهم إلى لاجئين ومن ثمّ المتاجرة بهم مرة ثانية وثالثة ورابعة.
كما نكتشف أيضاً تصريحاً آخر ذا دلالة على لسان منوشين يقول: « ترامب يعتزم توقيع أمر رئاسي لردع تركيا عن أي عمل عسكري هجومي إضافي في شمال شرق سورية». وكلمة «إضافي» هي التي تثير الاهتمام هنا؛ أي أن هناك اتفاقاً على عدوان عسكري تركي في شمال شرق سورية وأنه من غير المسموح اتخاذ خطوات إضافية على الخطوات المتفق عليها؛ أي أن الطلب هو الالتزام بالخطة المقرّة والمتفق عليها وليس هناك اعتراض على العدوان والاحتلال والقتل والتهجير واستخدام الإرهابيين تحت راية الجيش التركي لارتكاب كل هذه الجرائم بحق شعب ودولة عضو مؤسس في الأمم المتحدة. وتتضح الصورة أكثر حين يلجأ مسؤولون يعتبرون أنفسهم أعضاء في حركة تقاوم الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية لدعم هذا العدوان ولإعطاء العثمانية الإخوانية الجديدة مكاناً لا تحظى به في العالم الإسلامي. كيف يتّسق النضال ضد احتلال عنصري استيطاني مع دعم احتلال تركي مجرم موصوف ضد شعب شقيق وبلد آمن وأرض وتاريخ وجغرافية عربية؟ وكيف يتّسق النطق بالضاد مع دعم عدوان تركي على بلد عربي تربطه أوثق الوشائج مع البلدان العربية؟ أم إنه لم يعد الوقت مناسباً اليوم لطرح مثل هذه الأسئلة المنطقية بما أننا نعيش في عالم لا يمت إلى المنطق بصلة ولا إلى الصدق أو المصداقية أو احترام الذات أو الخجل من الظهور بمظهر الكاذب والمنافق؟
إذا كانت ردود الأفعال هذه تسمح لدولة تدّعي محاربة الإرهاب في بلد آخر فأي قاعدة تنطبق اليوم على العلاقات بين الدول إذا ما قررت دول أخرى أن تقوم بالشيء ذاته وأن تحارب خطراً محتملاً أو وهمياً ضمن حدود دولة أخرى؟ أي نظام عالمي يسود العلاقات الدولية وأي علاقات هذه التي تنافق لدى وقوع مثل هذه الجرائم التي تستحق أقصى درجات العقاب القانوني الدولي؟ إن العدوان التركي المجرم على الدولة السورية يقتضي من الحكمة والعقل اعتبار هذا العدوان على الأمة العربية قاطبة، لأنه لولا ضعف وتشرذم وتشتت هذه الأمة في اتجاهات مختلفة ومتناقضة لما تمكن العثمانيون الجدد من التجرّؤ على مثل هذا العمل المشين، ومن يظن نفسه من العرب في منأى عن هذا التجرّؤ فهو واهم سواء أكان المصدر عثمانياً أم أميركياً أم إسرائيلياً فإن النتيجة واحدة ألا وهي الاستهانة بالعرب جميعاً من الخليج إلى المحيط وإخراجهم من المعادلات الإقليمية والدولية والتي تتجه اليوم وبشكل خبيث وإن كان غير واضح للعيان لإخراج العرب جميعاً من معادلة القوى الإقليمية والدولية بذرائع واهية ومختلفة واعتماد أسلوب الشقاق والتفريق بينهم واستغلال ضعف القيادات وضعف العقول وانعدام النخب المفكرة وضعف المؤسسات في كل الأقطار العربية لتمرير مشروع خطير يستهدفهم جميعاً كأعرق وأقدم شعوب هذه المنطقة، تماماً كما تم استهداف الأبورجينز والسكان الأصليين في الأميركيتين منذ قرون. الغريب والمستغرب جداً في الأمر هو أن أحداً لا يعيد حساباً للعقود القليلة الماضية ليكتشف أين كان العرب وأين أصبحوا وماهي احتمالات خواتم هذا المسار الذي وضعوا أنفسهم فيه نتيجة الصِغَر وعدم إجراء حسابات إستراتيجية ودقيقة بشأن المصير النهائي لهم جميعاً. لاشك أن الأرض السورية هي التي تتعرض لعدوان تركي مجرم بأدوات إرهابية ولأهداف عثمانية شريرة لا علاقة لها أبداً بالأكاذيب التي يطلقها أردوغان ومرتزقته من الإخوان والإرهابيين، ولكن الحقيقة الأخرى والأهم والتي لا يذكرها أحد اليوم هي أن هذا العدوان الموصوف هو دلالة الاستهانة بالعرب والعروبة وبحاضر العرب ومستقبلهم وأدوات عملهم وطرائق التعامل بين بعضهم البعض والتي لا ترتقي أبداً لمستوى العلاقات حتى بين جيران يتقاسمون منطقة جغرافية واحدة ويشتركون باللغة والتاريخ والماضي وتحديات المستقبل سواء أأدركوا ذلك أم لم يدركوه. النفاق اليوم نفاق إقليمي وعالمي ولكن الذين يدفعون ثمنه على أرض الواقع بالفعل هم العرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، والشعب العربي في جميع أقطاره ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.