رغم التحذير والتنبيه من خطورة الوقوع في فخ الوعود الأميركية ورغم رحابة صدر القيادة السورية ومحاولاتها الدؤوبة تطمين المواطنين السوريين الكرد واعتبارهم من صلب المجتمع السوري تنطبق عليهم الحقوق والواجبات تجاه الوطن السوري، بيد أن قسماً من قادة الكرد الانفصاليين فضل تصديق الوعود الأميركية الإسرائيلية بتحقيق حلم «الدولة الكردية – الجيب الإسرائيلي» مفضلاً منطق العمالة لصالح أعداء الوطن السوري مخاطراً بمصير ومستقبل الكرد السوريين غير عابئ بتجارب التاريخ المخيب لكل من صدّق الوعود الأميركية أو أمن غدر العدو الإسرائيلي.
من الظلم أن نشمل الكرد جميعهم بسلة العمالة فهناك قسم كبير من الكرد تقاربوا وتحاوروا مع الدولة السورية وكاد الأمر أن يصل إلى خواتيمه المرضية، حيث وافق المتحاورون الكرد على وجهة نظر الدولة السورية مفضلين البقاء تحت الراية السورية كمواطنين سوريين بالحقوق والواجبات إلا أن الانفصاليين الغرباء أصلاً عن أرض سورية وبدعم أميركي إسرائيلي تركي مكن هؤلاء من السيطرة والسطوة على مناطق واسعة من الجزيرة السورية طمعاً بتقاسم ثرواتها المائية والزراعية والبترولية.
منذ 2013 تاريخ سيطرة الانفصاليين الكرد على أجزاء من الجزيرة السورية لم يحرك الرئيس التركي رجب أردوغان ساكناً لمحاربة الإرهاب وعلى العكس فإن الدور التركي كان داعماً للإرهاب وكل التقارير الصحفية والاستخبارية والشهود كانت تنقل مشاهد عن التعاون الوثيق بين المخابرات التركية والإرهابيين لجهة تسهيل دخولهم الأراضي السورية وتزويدهم بالسلاح والعتاد بعد استقبالهم وتدريبهم بمعسكرات أقيمت خصيصاً على الأرض التركية وبعلم ودعم من رجب طيب أردوغان نفسه.
انقلاب الإدارة الأميركية على تنظيم الإخوان المسلمين أصاب أردوغان بالخيبة والتهيب فكانت عملية الانقلاب الفاشلة على أردوغان عام 2016 بعدما ثبت أنها عملية من تأليف وإعداد جهاز المخابرات الأميركية وبتمويل من بعض الدول العربية المعادية للإخوان المسلمين.
في هذه الأثناء شهدت العلاقات الروسية التركية تطوراً إيجابياً لجهة رفع وتيرة التعاون الاقتصادي ناهيك عن التقارب الإيراني التركي المضطرد.
روسيا نجحت في احتواء محدود للدور التركي الداعم للإرهاب لكن هذا الاحتواء بقي محدوداً لأن أردوغان ليس من النوع الذي يبسط أوراقه على الطاولة فهو المشهود له بمهارة اللعب على الحبال فأمسك بالعصا من النصف، تارة تميل صوب الأميركي وتارة أخرى صوب الروسي، نجح في أستانا ورغم الاختلاف في وجهات النظر بيد أن الروسي استطاع امتصاص اندفاع أردوغان العدائي تجاه سوريه فكان انتصار حلب وما حولها والمصالحات في الجنوب وتحرير الصحراء السورية وصولاً إلى تشكيل لجنة مخولة بحث الدستور الجديد لسورية على الرغم من محاولات تركيا المتكررة باستعمال الإرهاب داخل سورية بهدف ابتزاز الروسي وانتزاع المزيد من النفوذ الإخواني في أي تركيبة حل سياسي قادم لسورية.
من المفيد التذكير أن أردوغان قام مرتين بعمليات عسكرية في الشمال السوري بحجة محاربة الإرهاب، الأولى سميت بدرع الفرات والثانية بغصن الزيتون، لكن نشاط الإرهاب في تلك المناطق سجل ازدياداً ملحوظاً منذ دخول الأتراك الأرض السورية، أما اليوم فهو يجتاح الشمال السوري مخالفاً كل القوانين الدولية بحجة ضرب الإرهاب الكردي ومنع إقامة دولة كردية على الحدود مع تركيا تحت مسمى «نبع السلام».
من نافل القول إن أردوغان ضرب كل مقررات الأمم المتحدة التي تمنع الاعتداء على الدول ذات سيادة من تلقاء نفسه وبغير تنسيق مسبق مع الأميركي المنسحب عسكرياً وحتى مع الروسي الطامح في بناء نظام عالمي متعدد جديد.
ومن راقب التحذيرات الأميركية لأردوغان من أي تجاوز للخطوط الحمراء بالإضافة إلى التعطيل الروسي الأميركي لقرار الأمم المتحدة بإدانة التدخل التركي في شمال سورية مع إبداء تفهم روسي للمخاوف التركية يستنتج بأن القرار التركي هو قرار متفق عليه ضمن خطوط مرسومة ويدخل في إطار التلزيم الأميركي الروسي المشترك بلعبة مصالح الدول، فالأميركي المنسحب يريد طمأنة التركي واجتذابه من أحضان الرئيس الروسي بوتين أما بوتين، هو أيضاً يريد إبداء التفهم للتدخل التركي من باب أمن الحدود التركية لاجتذابه نحو الحضن الروسي.
أردوغان اللاعب على الحبال انتهز فرصة الطمأنة الأميركية والتفهم الروسي وقرر الدخول إلى سورية لتثبيته كلاعب أساسي يضمن حصته من أي تسوية سياسية قادمة، تركيا اليوم بعدوانها السافر، واحتلالها لأراضي سورية، تريد تغييراً ديموغرافياً في شمال سورية وفصل كرد سورية عن كرد تركيا بحزام سوري تحتله مستفيدة من حمق وغباء وخيانة الكرد الانفصاليين ورهانهم الخاطئ على الأميركي والإسرائيلي ومستفيدة أيضاً من تقاطع المصالح بين الدول الفاعلة على الأرض.
ما يهم تركيا هو إقامة الحزام الأمني بعمق 30 كلم داخل الأرض السورية وفصل كرد سورية عن كرد تركيا لكن تركيا أردوغان لن تهتم بما يفعله الكرد حيال الدولة السورية ولن تهتم تركيا لخروج عشرات الآلاف من إرهابيي داعش خارج سجون قوات سورية الديمقراطية قسد ليعيثوا في الأرض القتل والدمار.
إن فصل كرد سورية جغرافياً وميدانياً ولوجستياً عن كرد تركيا هو مطلب تركيا أردوغان ولا شك في أن الحزام الأمني الجغرافي يحتوي على ثروات كبيرة من النفط والغاز، مما يتيح لتركيا مستقبلاً استغلال الثروات الكامنة، وهي الباسطة سلطتها أيضاً على محافظة إدلب والحاضنة للفصائل الإرهابية داخلها.
هنا تطرح التساؤلات حول مآلات الأحداث:
هل أردوغان وافق سراً مع الأميركي والإسرائيلي على إقامة كيان كردي داخل الأرض السورية بعيداً عن الحدود التركية يتقاسم معه ثروات سورية إرضاء لأميركا وإسرائيل؟
هل التفهم الروسي للعدوان التركي يخفي اتفاقاً تركياً روسياً بالانسحاب التركي من سورية بعد تحرير الجيش العربي السوري منطقة إدلب وأريافها يليه تفاهم وتقارب سوري روسي إيراني تركي بالعودة إلى تفعيل اتفاق أضنه بين سورية وتركيا؟
هل رجب أردوغان باعتدائه العسكري على سورية قد أوقع نفسه في فخ أميركي شبيه بفخ دخول صدام حسين إلى الكويت الأمر الذي أدى للإطاحة به وتفكيك العراق فيما بعد؟
وحدها الأيام والأشهر القادمة ستكشف لنا ما خفي وما بطن.