من دفتر الوطن

وداعاً عمي «أبو ماهر»

| وضاح عبد ربه

كان أستاذاً في السياسة، وأستاذاً في الوطنية، وأستاذاً في العمل السياسي والحزبي، ورغم كل ذلك، كنت وبشكل تلقائي أتجاوز كل الألقاب التي كان يستحقها بجدارة، وأناديه بكلمة «عمي»، ربما تعبيراً مني عمّا أضمره من احترام ومحبة لأبي ماهر الذي غادرنا بشكل سريع ومفاجئ منذ يومين، أو ربما لشدة تواضعه، والأريحية التي كان يفرضها على ضيوفه ومعارفه.
عمي «أبو ماهر» كان مدرسة في حب الوطن، ومدرسة في الدفاع عن سورية وقضاياها، كان يخوض حروباً ومعارك بكل ما تعنيه الكلمة من معنى في المحافل الدولية، فكم من وزير خارجية «عربي» عبَّر عن امتعاضه حين كان أبو ماهر يتحدث ويعري مواقف المستعربين، ويضع حدوداً لأكاذيبهم ويفضح مؤامراتهم، ويكشف لهم بالدلائل كم كانوا خانعين لمشغليهم وما زالوا.
كان «أبو ماهر» من خريجي مدرسة الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد، تلك المدرسة التي تقدس الاستقلالية وترفض الاستسلام ولا تحني رأسها إلا لله عز وجل.
كان من مدرسة الوفاء للوطن ولأصدقاء الوطن، كان تجسيداً للنبل السوري والشهامة واحترام الآخر، كان دبلوماسياً من الطراز الرفيع، حين تنفع الدبلوماسية، ومقاتلاً شرساً وفارساً حين تتعطل لغة الحوار وتبرز الأنياب المعادية.
عرفته سفيراً في جامعة الدول العربية، وكنت أسمع الكثير عنه وعن ماضيه وفكره المقاوم للإرهاب وما خاضه من معارك خلال الحرب مع الإخوان المسلمين مطلع الثمانينيات.
كان صديقاً محباً للصحفيين، جالس الكبار منهم والأكثر شهرة، يسمع منهم ويروي لهم، ويحاورهم، وكم من مرة تمنيت عليه كتابة مذكراته لما تتضمن من أفكار وطروحات ومواقف لا يمكن لأي سوري إلا أن يحترمها، إلا أن جوابه الدائم كان أن ما فعله لم يكن نابعاً إلا من قناعاته، وأن واجبه مثل كل السوريين الدفاع عن سورية ومواجهة كل من يعتدي عليها، وكلّ من موقعه.
كنت أحاول أن أجلس في مكتبه ما أستطيع من وقت لأسمع وأتعلم وأسجل رغم معرفتي المسبقة بحجم عمله، كان يرفض الجلوس خلف مكتبه، فيستقبل ضيوفه ويجلس إلى جانبهم، ويسأل عن أحوال البلد والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وكان مستمعاً جيداً وجليساً رائعاً متمكناً من معلوماته وقارئاً استثنائياً للأحداث، وكان موسوعة في علوم السياسة التي كان يتقنها بحنكة وذكاء.
يوسف أحمد لم يكن عضواً في القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي فقط، بل كان رجل دولة من الطراز الرفيع، يعمل يومياً لساعات طويلة من أجل تطوير الحزب، ومن خلاله تطوير سورية وتحصينها.
كان مكتبه ممتلئاً بالزوار، ولا أذكر أنه رفض يوماً استقبال أي مواطن سوري، ليس لتواضعه فقط، بل لحبه للناس الذين كانوا يبادلونه الحب ذاته وكل الاحترام.
مرات عديدة تحدثنا عن شؤون وشجون الصحافة، كان يؤمن بأهمية دور الإعلام وحريته، وكان إضافة لعمله يحب الكتابة والتعبير عن عشقه لسورية وقائدها، كنت أدعوه باستمرار للكتابة على صفحات «الوطن» وكان يلبي الدعوة، فيكتب مدافعاً عن كل شبر من الأراضي السورية وعن مواقفها المحقة ومواقف قائدها المشرفة.
غادرنا عمي أبو ماهر، تاركاً فراغاً في حياتنا نحن -الصحفيين- الذين كنا نلجأ إليه خلال رحلة بحثنا عن المعلومة، خسرناه كما خسرته سورية، وخسرته دمشق التي كان يتغزل بشوارعها وأزقتها.
آخر رحلاته كانت إلى حلب، حيث كان يجول في مختلف المحافظات السورية ليطّلع بنفسه على أحوال الناس، ويجري ندوات حوارية بسقف مفتوح وشفافية مطلقة، فيعود إلى دمشق ويُطلع القيادة، ويعمل معها لإيجاد الحلول الممكنة، وذلك تنفيذاً لتوجيهات السيد الرئيس بشار الأسد، بضرورة أن يكون الحزب قريباً من قواعده، يستمع إلى مقترحاتهم وأفكارهم وكذلك مشكلاتهم وهمومهم، ويعالجها ضمن الإمكانات المتوافرة، فيرتقي العمل الحزبي إلى طموحات مناصريه، وهذا ما كان يتطلع إليه يوسف أحمد ويعمل من أجله.
غادر أبو ماهر عالمنا هذا مطمئناً إلى أن سورية بخير، وأن المستقبل لا بد أن يزهر أمناً واستقراراً وسلاماً بعد حرب طويلة انتصر فيها الحق على الباطل، تماماً مثلما كانت حروبه التي خاضها في جامعة الدول العربية مع أخبث وزراء الخارجية والقادة الذين يطلق عليهم زوراً اسم «العرب».
غادر، بعد أن أمضى سنوات قليلة مع حفيده يوسف، وأذكر جيداً كم كانت فرحته كبيرة بولادة يوسف ماهر أحمد، وكيف فرض على نفسه وعلى ماهر الزيارة اليومية ليوسف إلى منزل العائلة، حيث كان يلتقيه يومياً بعد مغادرته مكتبه ليمضي معه ساعات يبادله الحب والحنان وعاطفة الجد التي لا توصف.
غادر مخلفاً إرثاً من التجارب، كل ما أرجوه وأتمناه على نجله الصديق ماهر، هو أن ينقلها لنا وللأجيال القادمة، لما لهذه التجارب من معان للعزة والكرامة والوفاء لسورية وقائد سورية.
مع رحيل عمي «أبو ماهر»، لا يسعنا إلا أن نتقدم بخالص العزاء للعزيز ماهر وللأخت رشا وللسيدة الفاضلة وشريكة الدرب أم ماهر التي رفضت فراق شريكها ولو للحظة واحدة طوال فترة مرضه التي استمرت أربعة أشهر، وبقيت تجالسه وتتحدث معه، حتى حين كان في العناية المشددة، وكانت على يقين أنه يسمعها، رافضة فكرة أن يغادرها رفيق دربها.
رحم اللـه عمي «أبو ماهر»، وأسكنه فسيح جناته، ولماهر ورشا أقول: من المؤكد أنه لا توجد كلمات تعبر عن خسارتكما، فكل العزاء لكما، وبارك اللـه فيما قدمتماه تجاه والدكما من حب وإخلاص، فكنتما خير الذرّية الصالحة.
أما ليوسف ماهر أحمد، فأرجو من اللـه أن يوفقك في حياتك وتكون خير من يحمل هذا الاسم الكبير، فتحافظ على نهج هذه العائلة المبني على الحب والإخلاص، وأنا كلي ثقة بأنك ستفعل، فوالدك ماهر وجدك يوسف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن