غضب الوسط السياسي الأميركي من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قواته من سورية يعبر عن ظاهرة سياسية، فالمسألة ليست فقط في صراع الكونغرس مع قرار الرئيس بل أيضاً في نوعية النظر إلى جغرافية الأزمات، فالانسحاب الأميركي عموماً يعبر عن عبور خارج المشاكل الإقليمية، فهو ليس تخلياً أميركياً عن الأكراد بقدر ما كونه انحسار الأولوية الأميركية تجاه المنطقة، فالقرار الذي يعتبره البعض فردياً يشكل سياقاً تبلور تدريجياً خلال العقد الماضي، وهو التحول داخل السياسة الأميركية في مرحلة التوازن مع القوى الأخرى سواء كانت روسيا أم الصين.
بدأ الأمر في ليبيا في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي قدمت إدارته أشكالاً من الخلل الإستراتيجي لكنه اتضح في سورية، فهذه الإدارة بقيت دون إستراتيجية واضحة تجاه سورية، وهو أمر تكرر مراراً خلال جلسات الاستجواب داخل الكونغرس، وتعمق أكثر من خلال الصراع الدبلوماسي في مجلس الأمن الذي أوضح أن الصين وروسيا ومن خلال الأزمة السورية يكسران الروتين داخل مجلس الأمن، لكن الحدث الأبرز كان في عدم قدرة الرئيس أوباما على اتخاذ قرار بـ«ضرب سورية»، وتفضيله للحل الروسي الذي مهد عملياً لدخول موسكو عسكريا إلى سورية.
عملياً فإن ما حدث هو سلسلة من الاتجاهات الإستراتيجية تجاه الشرق الأوسط، كان من الصعب تداركها بشكل سريع وعلى الخصوص في سورية، وهو ما دفع الرئيس ترامب للحديث خلال حملته الانتخابية عن نيته سحب القوات الأميركية من سورية، ورغم تأخر تنفيذ هذا القرار لكنه يحدث بطريقة مربكة ليس لأنه يعبر عن خلافات داخل الإدارة الأميركية، إنما لبعده العام في الإستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة.
قدم هذا الانسحاب فرصة لرسم ميزان جديد يمنع وفق التصور الأميركي تمركز القوة في إيران، فهو يضعنا أمام احتمالين:
– الأول توسيع الدور الإقليمي التركي، فالضجيج الأوروبي تجاه أنقرة لا يعني الكثير على مستوى التوازن في شرقي المتوسط، والاحتلال التركي لمساحة من سورية هو في النهاية ورقة تركية مهمة ضمن أي تفاوض قادم.
إن مفهوم توسيع الدور التركي هو ليس إستراتيجية بقدر كونه تعديلاً في الميزان الإقليمي، على الأخص في ظل الصراع الأميركي مع إيران، والطريقة الغريبة للرئيس ترامب في إخراج قراراته لا تعني عدم وجود مساحة سياسية يستند إليها وتعبر عن توجهات عامة، فالسياسة الأميركية تتجه إلى النظر تجاه شرقي المتوسط كحالة لا يمكن استيعابها عبر الضغط الدولي الذي تمارسه ضد إيران بالدرجة الأولى، بل لا بد من دفع باقي القوى للتعامل مع هذا الأمر ولو على المستوى الدبلوماسي، وتركيا ستقف عملياً ضد التوسع الإيراني تجاه شرقي المتوسط وفق نظر الإدارة الأميركية.
– الثاني تجزئة المسائل الإقليمية لمنع ظهور جبهات وتحالفات عريضة، فالخطوة الأميركية بالانسحاب أربكت إلى حد بعيد الموقف العربي، وسحبته نحو مساحة أقرب إلى دمشق من أي وقت مضى منذ اندلاع الأزمة.
لا تسعى الولايات المتحدة إلى فسح مجال لسورية كي تعود إلى الموقع ذاته قبل 2011، بل تحاول جعل الجامعة العربية ضمن التوازن، وتضعها من جديد في موقع سياسي مختلف بعد أن كانت غطاء لتحرك دول الخليج عموما، وهذا الأمر سيتيح مجالاً تنافسياً بين بعض الدول العربية وإيران على المساحة الدبلوماسية، بدلاً من التناقضات الحادة، وربما تكون سورية الموضوع الرئيس لهذا التنافس في مواجهة النفوذ الإيراني المزعوم.
خريطة جديدة تتبلور وتتبدل معها التوازنات عشية انعقاد الجلسة الأولى للجنة الدستورية في جنيف نهاية الشهر الحالي، وستغدو الكتل المتفاوضة أمام واقع جديد سيظهر على الأخص في قدرة المجموعة الثالثة في اللجنة، أو ما يسمى اللجنة الدستورية، على التحرك خارج الإطار التقليدي الذي تفرضه المعارضة، فالتحولات الإقليمية قبل جنيف ستبدل طبيعة النظر إلى الدستور السوري وتوازناته داخل واقع إقليمي مضطرب.