من دفتر الوطن

الانتقام من الذات

| زياد حيدر

هنالك مرض تعرفت إليه منذ زمن، بعد مشاهدتي لشخصية نسوية في أحد الأفلام، تقوم بتشويه جسدها بفرجار الهندسة وسكين المطبخ، وأحياناً مشرط الأشغال اليدوية، وذلك إثر تعرضها لكل أزمة نفسية، حتى يصبح الأمر عادة يتم الإدمان عليها، وتقود في النهاية للانتحار في أغلب الأحيان.
المرض الذي تبين بعد البحث أن اسمه العلمي بالعربية هو «إيذاء النفس» شائع جداً ولاسيما في المجتمعات المتقدمة، وهو متعدد الأسباب ونفسي الطابع، ويأتي من عوامل عدة بينها «ضعف مهارات التأقلم، وصعوبة التعامل مع الأزمات» وغيرها.
وهو من نمط الأمراض المازوشية التي تقوم على استخلاص المتعة والراحة من الألم ومنظر الدم وتشويه النظرة لـ«الجسد المثالي».
هذا على مستوى الأشخاص، أحياناً تميل شرائح من الشعوب لممارسة الأمر ذاته بحق نفسها، تطالب بما تعتقد أنه حق، من سلطة أعلى، وحين لا تستجيب تبدأ بإطلاق غضبها إلى الخارج، من دون خطة أو حذر.
لكن أن تطلق غضبك باتجاه الآخر شيء، فتعرقل عمله، وقدرته على تنفيذ خططه، وأن تفعل الأمر بذاتك هو شيء آخر.
يلاحق قسماً كبيراً من الكتالونيين -تسمية المواطنين المنتمين لإقليم كاتلونيا- حلم صعب إن لم يكن مستحيلاً بالانفصال عن الدولة الأم إسبانيا وتأسيس دولة قومية خاصة بهم.
يمثل هؤلاء نصف عدد السكان وفقاً للإحصائيات، على حين يؤيد النصف الآخر البقاء في إسبانيا، أو ببساطة لا يهتم.
أما القسم الأول فمهووس، بصبغ كل شيء بصبغته القومية، وصولاً إلى اعتباره أعلى مستوى من حرية واستقلالية مقاطعة بحكم ذاتي في أوروبا حالياً. رغم ذلك، يشد المتعصبون خلفهم الشباب والكهلة بشكل أساسي نحو فكرة واحدة هي الوصول لجمهورية مستقلة، علماً أن هذا الطموح لا يحظى بتأييد دولة تذكر، إلا بعض خصوم أوروبا التاريخيين، المعنيين بتفكيكها وزيادة مشكلاتها، لا حريات الشعوب ونزعاتها الاستقلالية.
وفي ظل العجز عن التقدم، ما الذي يفعله البعض، يعود إلى الخلف.
في عام 2017 غادرت ثلاثة آلاف شركة عالمية ومهمة الإقليم، بسبب الاضطربات التي استمرت ما يقارب شهرين من الزمن. وخسر الإقليم مئات الملايين من اليوروهات بسبب تراجع الشركات السياحية عن حجوزاتها أو اختصار مدتها، ناهيك عن إلغاء المعارض الاقتصادية وكلها عالمية الطابع ومصدر جذب استثماري.
الدرس الذي فات الجميع تعلمه، يتكرر مجدداً الآن هذه الأيام. بدءاً من محاولة احتلال مطار برشلونة الدولي منذ أيام ما قاد لإلغاء 110 رحلات جوية وعرقلة سفر عشرات الآلاف، وصولاً لإحراق السيارات في الشوارع العامة، ومجابهة الشرطة وإجبار المحال على الإضراب، وما إلى ذلك من طرق الاحتجاج العنيف، يخسر أصحاب القضية تماماً كما يريد لهم خصومهم أن يفعلوا. يطلقون النار على أقدامهم، فيخسر الإقليم شيئاً فشيئاً سمعته الآمنة، وتفوقه كوجهة سياحية (ما يعادل ثلاثين مليون سائح العام الماضي) وتفوقه الاقتصادي على المستوى الأوروبي وقدرته على جذب الاستثمارات، وذلك في ملاحقة حلم لا يرغب أي من السياسيين المحليين سواءً من باب العند أو الجهل، في الاعتراف بصعوبة إن لم يكن استحالة تحقيقه.
يجرجرون خلفهم الفلاحين والعمال، الموظفين والطلاب نحو وجهة الحلم الصعب، وفي طريقهم إليه يدمرون شيئاً فشيئاً بيتهم، وعناصر تميزهم وتفوقهم.
كم مرة حصل هذا السيناريو في الشرق وفي الغرب، وكم مرة سيتكرر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن