منذ سنوات استغرب بعض الزملاء والكتّاب، وأنا منهم طبعاً، من ضآلة المبالغ التي يتقاضونها كتعويض عن المقالات التي تنشر في الصحيفة، ولما كنت أنا الذي أضع المبالغ التي على الصحيفة دفعها للزملاء فقد ذهبت إلى المحاسبة الآنسة «نون» للاستفسار منها عن سبب «تبخر» المبالغ فكانت المفاجأة.
على كل حال كانت المبالغ هزيلة جداً أصلاً، فلا يتجاوز المبلغ حينذاك الألف ليرة سورية للمقالة الواحدة، ومع ذلك كانت هناك يد خفية تقلل المبالغ، وعندما سألت الآنسة «نون» عما إذا كانت هي التي كانت تقلل المبالغ فأجابتني بالإيجاب، فسألتها على أي أساس تفعل ذلك فقالت: بالمسطرة، فعرفت أنها كانت تقيس المقالة أو الريبورتاج والتحقيق والدراسة بالمسطرة، لكنني بصدق لم أعرف ثمن السنتيمتر، وحتى الآن أشعر بالندم لأنني لم أعرف ثمن الكلمة والجملة والسطر، لكن المهم أنني عرفت ذلك الميزان العجيب الذي يوزن الكلام به، وهذا الميزان «ابتكار» سوري بامتياز يحق لنا أن ندخل به موسوعة غينيس، ونسجل براءة اختراعه على مستوى العالم كي لا يسرقه منا المستعمرون والعملاء والمتآمرون.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد التقيت في الطريق بأستاذي الراحل محمد محفل فعرضت عليه إيصاله إلى بيته عندما علمت أن سيارته عند «الكهربجي» وفي الطريق تبادلت معه أطراف الحديث، ومنها عملي في الصحيفة وعما كنت سعيداً به، هنا طلب مني الدكتور محفل أن أقبض له ثمن مقالة نشرها في الصحيفة، فرحبت بذلك طبعاً.
لكنني لم أستطع قبض ذلك المبلغ لأنني خجلت من نفسي ومن مؤسستي التي وجدت مقال باحث بوزن وحجم محمد محفل لا يستحق أكثر من ألف ليرة ستتقلص إلى أقل من تسعمئة ليرة سورية بعد حسم الضرائب!
ولا أدري ما إذا كانت المسطرة إياها لعبت دوراً في تقدير المقابل المادي الذي يجب أن يعطى للدكتور محفل، لذا سألت المدير العام عن ذلك ولماذا لا يعطى أصحاب الفكر والخبرة وأساتذة الجامعات والكتّاب الكبار مبالغ مجزية فقال لي: هذا ما تسمح به القوانين والكتلة المالية المتاحة للمؤسسة!
الشيء نفسه تقريباً حدث مع كاتبنا الكبير حنا مينه ومع المؤسسة الصحفية نفسها، ومن الطبيعي أن يكون الأمر تكرر ويتكرر حتى يومنا هذا في كل المؤسسات الصحفية الرسمية، أو الوطنية، حسب توصيف أحد رؤساء الوزراء السابقين، وكأن الصحف الخاصة ليست وطنية!
رويت هذه القصة لأحد الأصدقاء فضحك وسألني بين الجد والهزل: هل تحسب المسطرة ثمن المقالة قبل المقص أم بعده؟ وقبل أن أجيب قال: الكلام الذي ينجو بنفسه من مقص الرقيب تأتي المسطرة لتقص منه رغيف خبز وقطعة جبنة، فالمبلغ أصلاً لا يشتري أوقية لحمة، فهل يكفي لشراء وجبة طعام لأسرة كاتب فقير، ومعظم كتابنا فقراء؟ ومع ذلك نخشى أن يقوم المقص نفسه بقص ألسنة تجرأت وقالت الحقيقة المرة.
المسلسل مستمر دون توقف، والمقالة التي يتقاضى عليها الصحفي مبلغاً هزيلاً لا يتجاوز ثلاثة آلاف ليرة مثلاً، تعادل ضعفي راتب أي صحفي إذا نشرت في صحف دول الجوار، اللهم لا حسد!!