لقطة اليوم

«آكل المرار»

| عبد المنعم علي عيسى

هما مرتان رصدت فيهما حواس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلها وبما لا يدع مجالاً للشك «غدر وخيانة» الأميركيين له، الثانية كانت أفدح على الرغم من أن الأولى كانت قد استهدفته شخصياً قبل أن تستهدف نظامه، وفداحتها تتأتى من كم العواصف التي كانت تنذر بإثارتها، وهي بالتأكيد على قدر أكبر وأكثر خطورة من نظائرها في الحالة الأولى، وبالنتيجة فإن الاثنتين تتلاقيان من حيث المرامي والأهداف وإن كان ذلك عبر متاهة أطول في حالتها الراهنة.
احتاج أردوغان لسنتين ونيف لكي يستطيع تنظيف حلقه من طعم المرار الأميركي المنسكب فيه جراء ما تكشف سريعاً، ثم لاحقاً، من تواطؤ واشنطن في محاولة الانقلاب الفاشلة على نظامه في الخامس عشر من تموز 2016، واليوم من الصعب معرفة كم سيحتاج من الوقت للقيام بالفعل نفسه الذي تكرر ما بين 7 تشرين الأول الجاري وبين 15 منه، وهو كردة فعل أولى اختار «تجرع كأس السم» بدلاً من إظهار تقلص شفتيه على طريقة «آكل المرار» الملك الشهير في التاريخ العربي، والمشهد السابق قد يبرر، أو هو يفسر، اتفاقه مع الأميركيين المعلن في أنقرة يوم الخميس الماضي.
أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدته الشهيرة التي أعلن فيها انسحاب قواته فيها من مواقع محيطه برأس العين وتل أبيض في 7 تشرين الأول، ما أعطى إشارة واضحة بضوء أخضر أميركي سرعان ما التقطه أردوغان الذي لم يتأخر لأكثر من ثمان وأربعين ساعة لإطلاق عملية «نبع السلام» التي قال: إنها وإن لم تكن بطلب من الحكومة السورية إلا أنها تندرج في السياقات التي حددها اتفاق أضنة الموقع بين حكومتي البلدين في العام 1998.
ما جرى بين حدي الثنائية السابقة، أي 7 و15 من الجاري، كان يوحي بأن فخاً قد نصب لأردوغان على الطريقة «الغلاسبية» الذي يختصر بقول السفيرة الأميركية إبريل غلاسبي لصدام حسين في لقاءها معه 25 تموز 1990 عندما راح يشكو لها «ظلم ذوي القربى»: إن واشنطن لن تكون معنية بالطريقة التي يحل بها العراق مشاكله مع جيرانه، والأخير لم يتأخر في التقاط الإشارة فقد مضى نحو سيناريو كارثي بقرار غزو الكويت بعد سبعة أيام من معاينته لها والبقية معروفة.
وجه التشابه بين الفعلين تمظهر بعدة معطيات، فبعد ثلاثة أيام من انطلاق الغزو التركي للشرق السوري أخذت أصوات ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو تتعالى مطالبة بوقفه، ثم راحت تهديدات الأول تتوالى بـ«تدمير الاقتصاد التركي» إن هو لم يفعل، وبعد يومين من تلك التهديدات أصدرت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على ثلاث وزراء يمثلون أرجل القدر الثلاثة التي يقوم عليها نظام أردوغان، وهذا التصعيد الذي بدا أنه آخذ بالتنامي ساعد في اندفاع عجلة الأوروبيين نحو دوران أسرع يصب في الاتجاه نفسه، والفعل عينه برز أيضاً في التنديد الذي واجهت به جامعة الدول العربية الغزو التركي.
من المؤكد أن أردوغان قد تفاجأ بحجم واتساع رقعة التنديد الذي حظيت به «نبع السلام» التي لم يؤيدها سوى إمارة قطر «العظمى» و«إمبراطورية» الصومال! بل إن المدى المذكور كان قد لامس حدوداً لم تكن متوقعه وهو ما سجله موقف الرئيس الشمال قبرصي مصطفى أكنجي الذي قال: إن هذه، يقصد العملية التركية، لن تكون «نبع سلام» بل ستكون «نبع دماء»، وتلك حالة يجب أن ينظر إليها على أنها أقرب إلى ممارسة فعل التململ من الوضع الذي يعيشه الجزء الشمالي من الجزيرة القبرصية منذ العام 1974.
كانت السرعة الحاصلة في تلاقيات «الإدارة الذاتية» مع دمشق عبر اتفاق حميميم المعلن في 13 من الشهر الجاري بدعم روسي مفاجئة، ليس في الإعلان عن الوصول إليها فذاك كان محسوباً بل ومتوقعاً، بل في سرعة ذوبان الجليد الذي انجلى بسرعة ولم يكن ذلك متوقعاً، وعلى الرغم من أن ذلك التلاقي لا يمكن أن يوضع في سياق التحولات النوعية قياساً إلى أن اندفاعة الأكراد قد حتمتها رؤيا أرادت الخلاص من سندان الانسحاب الأميركي ومطرقة الغزو التركي الذي يهدد بتمزيق النسيج الكردي، وهو وفق تلك الرؤيا يمثل فقط استدارة مهيئة للعودة إلى نقطة البدء التي انطلقت منها إذا ما هبت رياح أخرى معاكسة بالتأكيد، وإذا ما أراد الأكراد إرسال رسالة تشي بغير هذا المفهوم فإن الطريق إلى ذلك معروف وهو يقتضي استصدار بيان تعلن فيه الأحزاب المنضوية تحت راية «الإدارة الذاتية» عزوفها عن خيار «الفيدرالية» مرة واحدة وإلى الأبد، بل وتذهب إلى تضمين ذلك في أدبيات تلك الأحزاب وعلى رأسها «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي، وفيما عدا ذلك فإن الخيار الكردي الراهن يصبح تمريراً للوقت وهو لا يؤسس لاستقرار داخلي أو إقليمي، لكن على الرغم من ذلك فإنه يشكل خطوة متقدمة على صعيد التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
رصدت الكاميرات حالاً من التجهم بدا واضحاً على وجهي أردوغان ومايك بينس وهما يتصافحان، ولربما كان ذلك طبيعياً بالنسبة للأول قياساً إلى المناخات التي تعمدت واشنطن إضفاءها على أجواء اللقاء، فقد عمدت هذي الأخيرة قبيل حدوث هذا الفعل الأخير إلى تسريب مضمون الرسالة التي أرسلها ترامب إلى نظيره التركي في 9 من الشهر الجاري وفيها نصح الأول الأخير بعدم جدوى «أن يكون أحمقاً»، وعبر فعل التسريب وحده، وليس عبر ما احتوته الرسالة، كان فعل سكب المرار في الحلق يصل إلى مداه الأقصى، على حين إن التجهم على وجه بينس كان مبرراً فقط للتعبير عن حال الامتعاض الأميركي الذي وصل مستويات عليا عبر رفض أردوغان حتى قبيل ساعات من حدوث الاجتماع لقاء الوفد الأميركي معلناً أنه «سيلتقي ترامب عندما يأتي إلى هنا».
ما حدث في الداخل السوري من تلاقيات بين الكرد ودمشق والاستثمار الروسي السوري في فعل الانسحاب الأميركي هو الذي أدى إلى انعطافة 17 تشرين الأميركية التي استولدت اتفاقاً جديداً مع الأتراك، والتي يمكن توصيفها على أنها فعل تقديم «سكّره» لتخفيف طعم المرار المتولد في الحلق التركية، كانت المآلات التي توحي بها المسارات الحاصلة تهدد بأن تصبح دمشق «أرضاً منخفضة» تستطيع جب كل المياه والسيول التي أحدثتها عملية «نبع السلام»، وبالنتيجة كان اتفاق 17 تشرين قراراً بوجوب وقف عملية «الجب».
الآن وبعيد إطلاق عملية «نبع السلام» ومن ثم توقفها بعد ثمانية أيام باتفاق أميركي تركي قضى بوقف لإطلاق النار قيل أنه سيكون لخمسة أيام يفترض فيها أن تنسحب القوات الكردية لمسافة 32 كم وفي الآن ذاته ستقوم بتسليم أسلحتها الثقيلة، وكلا الأمرين مشكوك فيهما تبعاً لقصر المهلة المعطاة ولغايات أخرى في نفس يعقوب، فإن الأحداث الأخيرة سجلت وقائع شديدة الأهمية في مسار الأزمة السورية لعل الأبرز منها هو أن «حلم الإدارة الذاتية» قد انتهى في الشرق السوري، وإن كان من الراجح أن يعمد الأكراد الآن إلى ازدواجية سياسية تتيح اتباع سياسات منفتحة على الأميركيين داخل «المنطقة الآمنة» ومنفتحة على السياسة السورية والروسية في المناطق التي تقع خارجها، ومن أبرزها أيضاً عودة الجيش السوري إلى مناطق واسعة على الحدود السورية التركية، وانسحاب أميركا الذي بات مؤكداً من كل الأراضي السورية وإن كان مرجحاً الآن البقاء في قاعدة التنف كنقطة تجمع وحيدة لوقت غير معروف، ثم اضطرار «قسد»، ومعها أنقرة أيضاً، لفتح قنوات حوار مع دمشق، والصورة الأخيرة لن تتضح إلا بعد لقاء أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سيتزامن مع انتهاء مهلة الأيام الخمسة المتفق عليها.
أردوغان اليوم أمام فرصة للصلاة في الجامع الأموي، لكنها مختلفة عن تلك التي وعد مريديه بها في أيلول من عام 2012، والفرصة حقيقية وهي تملك فعلاً حظوظاً واقعية لكن عتاة حزب العدالة والتنمية سيقولون: إن من لم يؤد «الفرض» يصبح أداؤه لـ«التراويح» بلا سند شرعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن