ثقافة وفن

«تدمر.. الصراع العنيف» عرض من فنونِ ما بعد الحداثة … فصيح كيسو لـ«الوطن»: لا أقدم عروضاً للإمتاع… تجريبيّ الفكرة والعناصر إلى أقصى حد

| سوسن صيداوي - تصوير: طارق السعدوني

لإثارة الإرباك، ولتعيش الحالة لابدّ من تحقيق فوضى في الحواس، مع تحقيق فراغ كبير في اللاوجود، والضياع في البعثرة. وعند الوصول إلى هذا النزق العبثي من الاضطراب في النفوس والأفكار مع المشاعر، سواء عبر الصورة والصوت، فيما يُرى ويُسمع، مع الاهتزاز تحت الأرض، سنصل إلى خلق قريب بنسبة معينة من حالات تخلقها الحروب بنيرانها وتخريبها، وبتشويه أهوالها للمألوف، ومن الكلمة الأخيرة «المألوف» خرجنا في عرض من فنونِ ما بعد الحداثة «تدمر.. الصراع العنيف» في تجربة ليست بغريبة عما يقدمه لنا الفنان فصيح كيسو من جديد، مختلفا بالفكرة ومتجدداً بتقديمها باستخدام أدوات «مقاطع فيديو -رقص حي- موسيقا وغناء… إلخ» اجتمعت لمدة ساعتين تقريباً لتثير الإرباك في الحضور الذي لم يكن نمطي الجلوس في فرجة معتادة، بل بقي واقفاً ومتجولاً في أرجاء الصالة ليتابع مراحل العرض على خشبة مسرح الأوبرا، في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق. وحول العرض وأمور أخرى نقدم لكم:
لماذا تدمر؟

بداية جاء جواب د. فصيح كيسو في سؤالنا عن العنوان «تدمر: الصراع العنيف»، واختياره لتدمر بالذات لتحمل وزر الحرب وخرابها: «تدمر هي جوهر وروح الحضارة السورية، وتحمّلت -كغيرها طبعاً- بشكل أفظع وأوضح من باقي المناطق الآثارية، الصراع بين ما هو ظلامي وسلفي وبين ما هو لهذه الحضارة العظيمة من قيمة. إذا الجماعات الإرهابية أرادت تدمير روح الحضارة السورية بالعموم، وتدمير روح تدمر بالخصوص قبل تدمير الحجر فيها. هذا وإضافة إلى أنه ومن خلال اغترابي عن الوطن لمست حب الأجانب لتدمر ولحضارتها وآثارها، فكلّهم يعرفونها وعندما يأتون إلى سورية لابدّ من أن يقوموا بزيارتها.
وعن شعوره حين قام بزيارته الأولى لتدمر بعد أربعة أيام من استرجاعها من داعش تابع يقول: «الزيارة لم تكن منفردة لي بل كنا فريقاً كبيراً من السياسيين والإعلاميين والآثاريين… إلخ سواء سوريون أم أجانب، وبصراحة لقد صدَمنا الخراب الهائل من الدمار، كما شعرت بالرعب والغرابة، مع الحزن والقهر الشديدين لما آلت إليه هذه العظمة الحضارية من كوارث التدمير والتخريب».

تنويع المواد
في تفاصيل أكثر حول عرض «تدمر.. الصراع العنيف» لابد من التذكير بأن العمل يصبّ في تيار الفن المعاصر، وتضمن عناصر: تجهيز الفيديو، الأداء الحي، تجهيزات صوتية وإضاءة وغيرها، كما استفاد من كواليس وخشبة الصالة الرئيسية بدار الأوبرا، تاركاً -كما ذكرنا- للجمهور حرية التنقل في الأماكن التي يريد شغلها دون التقيد بالجلوس على المقاعد. ومن العناصر التركيبية نذكر لكم كيف أولا وضِع سقف فوق الجمهور تم إحضاره من سوق حمص القديمة وهو عبارة عن صفائح توتياء مثقوبة من طلقات الرصاص والتفجيرات التي تعرضت لها المدينة، وتم تجهيزه بإضاءة منتشرة بلون ضوء الشمس وأطلق على هذا العمل «ثقوب الشمس» ليطرح تساؤلاً عما إذا كان التشويه -رغم إدانته- يخلق جماليات غير متوقعة.
وأيضاً الأداء الحي الذي أطلق عليه «فيتامين» فكان أداء لمجموعة من الراقصين المعاصرين الذين قاموا بتشكيلات جسدية حية على أنغام مقطوعات من موسيقا فيفالدي «الفصول الأربعة»، حيث يرتدي الراقصون الأغطية الصوفية على هيئة أزياء قامت بتوزيعها المنظمات الدولية، لإثارة السخرية رغم الوجع، كما رافق هذا العرض فيلم رسوم متحركة بالأسود والأبيض.
ولكن حول هذا التنوع في العرض شرح لنا الفنان كيسو: «يطرح العمل أسئلة عن تدمير التراث القديم من عمارة وفنون، وكيف تمّ استهداف الإنسان فكرياً وجسدياً. هذا وكلّ المعارض التي قدّمتها في الدول الأجنبية سواء في أستراليا أم في الدول الأوروبية، كلّها كانت مبنية على التنوع في استخدام المواد. ففي بداية مشواري الفني بدأت بالتصوير الضوئي، ومن بعدها اتجهت نحو الرسم والتلوين على الصورة الضوئية، ثم انتقلت إلى ما نسميه خلق تكوين في الفضاء، ومن بعدها أضفت الفيديو من عناصر العرض ومن ثم الأداء الحي وهذا كله منذ عام1998. أما بالنسبة لعرض «تدمر.. الصراع العنيف» لقد اشتغلت عليه مدة ثلاث سنوات، وأعمل بالتزامن معه على معرض أخر، وله علاقة بالثقافة السورية وما نتعارف عليه… بالموزاييك، خلاله أعمل على تقديم قراءة جديدة للحرفية والخروج من المألوف إلى التجديد».
وفي سؤالنا عن أن عرض «تدمر.. الصراع العنيف» صعب المتابعة ويحتاج إلى الكثير من التركيز بتجهيزاته المتنوعة، أجابنا: «أنا لست بمسرحي ولا أقدم عروضاً للإمتاع، بمعنى الجمهور لدي لا يأتي ويجلس على كرسي ويتفرج مدة ساعة، بل عروضي هي من ضمن نطاق الفنون المعاصرة التي هي من أجواء المتاحف وصالات العرض الضخمة الخاصة والعامة، وجمهوري هو الذي يتابع الفنون التشكيلية وليس من يتابع فنون الرقص والباليه – على الرغم من أني أتمنى أن يتابعني كل الناس بغض النظر عن ميولهم- ولكن الهدف من عروضي هو إيصال فكرة من خلال تعدد المواد والعناصر الداخلة في العرض، وأشير هنا إلى أنني أثير إرباك المشاهد، ففي عرض عام 1998 في ملبورن، حققت الغاية من خلال تنوع المواد التي استخدمتها من صوت وفيديو وأعمال مطبوعة على القماش، وأشدد هنا أن كثرة المواد هو أمر تجريبيّ دائما، وأحاول خلالها تفهيم المشاهد ما يدور في العرض سواء من أداء أو فيديو.. إلخ».
وعن مساهمته الفنان فصيح كيسو في تطوير تيار الفن المعاصر قال: «في الحقيقة لمّا أتيت إلى سورية قبل الأزمة من استراليا، كان هدفي الخوض بفن ما بعد الحداثة، وكنت قدمت في عام 2005 ثلاثة معارض في سورية، فيها مواد متنوعة مختلفة من ناحية الأفكار والمواد، فأنا فنان تجريبي إلى أقصى حد، وهدفي الأساس هو نشر هذا النوع من الفنون، وقد قمت بتأليف مقرر خاص بجامعة القلمون واسمه «الفن الآن» ويضم كل ما يحدث في الفن في العالم. وبصراحة حتى اللحظة لم ألمس الفرق بين الشباب الذين درّستهم المقرر بين 2009 والوقت الحالي، بمعنى ما بين الحرب وما قبلها، ولكنني سأرى الفرق في هذا الفصل الدراسي، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن هناك تجربة سابقة للطلاب كنا عرضناها في دمشق ومركز الفنون الجديدة لدي في الحسكة، وكانت النتيجة رائعة جداً.
كما أحب أن أضيف وبالعودة للسؤال، إنه باعتقادي هذا التطوير يحتاج إلى تاريخ وإلى عمل يتطلب زمنا طويلاً. وبقي أن أقف عند نقطة أنه إذا عمل الفنانون على أدوات هذا الفن، فهذا لن يلغي الفنون الأخرى من نحت أو تصوير، فلا شيء يلغي الأخر في الغرب، ولكن التنويع بالطرق هو الوارد مع التجارب، وهذا ما نحن بحاجة إليه، وعلينا أن نتعود رؤية المختلف، كما أتمنى أن نشاهد تجارب أكثر للفنانين السوريين الذين يعملون في هذا الإطار، وخصوصاً أنه في لبنان بدأ يأخذ مكانه بشكل واضح، وأصبحنا نلمسه مؤخراً في العراق، وحتى في الإمارات حالات التعبير في الفنون مختلفة جدا، إذاً نحن بحاجة للتنوع في فنوننا».

في كلمة أخيرة
في ختام الحديث وجه الفنان والدكتور في جامعة القلمون فصيح كيسو كلمة لسورية ولطلابه حملة رسالة الثقافة والفن «أعتقد أنه علينا أن نوّحد الكلمة باتجاه بناء سورية، وأن تكون مع اختلاف الانتماءات التي هي نتيجة الاختلاف العقائدي والديني والفكري وحتى السياسي، فالتنوع هو حالة تؤدي إلى التطور وهذا ما تبنّته الدول المتطورة والحديثة التي تشكلت منذ خمسئة سنة أو أقل. إذاً هذا الأمر يتطلب منا أن نغذّي فكرة الاختلاف ونقبلها، ففي النهاية نحن نعيش في بلد واحد رغم اختلافاتنا المتنوعة التي ستغنينا في كل المجالات وليس فقط في الفن. وأخيراً الهدف هو سورية ولا نستطيع أن نتطور إلا إذا اعترفنا باختلاف ببعضنا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن