كتبت في الأسبوع الماضي أن الخطأ في تقدير القوة الذاتية وحجم القوى الأخرى المؤثرة في الميدان قد تكون السبب الأساسي في هزيمة الذات. تنطبق هذه المقولة على الرئيس التركي رجب أردوغان الذي ذهب إلى سوتشي طلباً لمساعدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للخروج من ورطة احتلال قواته ومرتزقته لأراضي في شمال وشرق سورية وفي الوقت الذي عقدت فيه قمة سوتشي كان الرئيس بشار الأسد بين قوات الجيش العربي السوري على حدود إدلب يوجه رسائل قوية إلى كل العالم أن الجيش العربي السوري سيحرر إدلب من الإرهابيين ويستعيد كل الأراضي السورية المحتلة.
حظيت نتائج اجتماع سوتشي بين بوتين وأردوغان بمتابعة واسعة واهتمام كبير من الخبراء والمحللين العسكريين والسياسيين حيث كشف بوتين بعد قمة سوتشي التوصل إلى حلول مصيرية حول سورية.
وأضاف بوتين: إن «تركيا تعتبر وحدة سورية واحترام سيادتها موقفاً مبدئياً»، مشدداً أن «سورية يجب أن تكون محررة من الوجود العسكري الأجنبي غير الشرعي، وقالت قناة «روسيا اليوم» إن بوتين، ونظيره أردوغان، توصلا لمذكرة تفاهم حول سورية تقضي بنشر الشرطة العسكرية الروسية شمال وشمال شرق سورية وتطبيق اتفاق أضنة.
وتضمن الإعلان الروسي التركي الصادر باتفاقية سوتشي عشرة بنود أهمها: أكد الجانبان سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية، وشدد الجانبان على محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره وتعطيل المشاريع الانفصالية في الأراضي السورية.
أكد الطرفان أهمية اتفاقية أضنة، حيث ستسهل روسيا تنفيذ هذه الاتفاقية في ظل الظروف الحالية.
بدءاً من الساعة الـ12:00 ظهراً من يوم 23 تشرين الأول 2019، الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري سيدخلان لتسهيل إخراج عناصر «ي ب ك» وأسلحتهم حتى عمق 30 كم من الحدود السورية التركية.
وستسير دوريات تركية وروسية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية «نبع السلام» بعمق 10 كم.
أبواق أردوغان الإعلامية تدعي أنه باتفاق سوتشي بدأت مرحلة جديدة، وستكون هذه المرحلة بشراكة تركية ــ روسية. التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوتين شددت على ضرورة بدء حوار بين الحكومة السورية والأكراد.
وقال إن السلام والاستقرار في المنطقة سيضمنه السوريون والأتراك، في إشارة قوية إلى جهوده للتقريب بين دمشق وأنقرة. أنقرة حققت إقامة «منطقة آمنة» بإشراف تركيا من رأس العين إلى تل أبيض بعمق 32 كلم، وإبعاد «قوات الحماية» الكردية على امتداد الحدود بعمق 30. كما أن الحديث عن اتفاقية أضنة يعني السير نحو إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، وتشير بنود الاتفاق إلى تقاطع المصالح بين تركيا وروسيا، ودخول الدولة السورية لاعباً ثالثاً قوياً. روسيا كانت ترغب في انتشار الجيش السوري في كل الحدود، لكنها قبلت باستبعاد 120 كلم لتركيا. في المقابل، كانت تركيا تريد السيطرة على 444 كلم من الحدود، واكتفى بتسيير دوريات مشتركة مع روسيا خارج حدود «المنطقة الآمنة» وبعمق 10 كلم. ويدعي إعلام أردوغان أن تركيا حققت أحد أهم أهدافها الإستراتيجية، وهو إبعاد «الإرهاب» الكردي عن حدودها وهذا يعني أن ما يسمى «قوات الحماية» الكردية ستتخلى عن بنيتها العسكرية. وقد حال الاتفاق دون مطلب تركيا أن تكون «المنطقة الآمنة» على امتداد الحدود علماً بأن إحدى أهم نقاط الاتفاق هي تولي الجيش العربي السوري مهمة الإشراف والمراقبة على منطقة بطول 320 كلم كانت تركيا تريدها لنفسها. أما الحديث عن اتفاقية أضنة فيتطلب مراجعة الاتفاق لإيجاد آلية ثلاثية لتطبيقه بين سورية وتركيا وروسيا، بعد الانسحاب الأميركي من سورية.
قد يكون أردوغان نجح في استعراض قواته ومرتزقته باحتلال أراضٍ سورية، ولكنه بالتأكيد سيكون مُجبراً على التعاون مع الدولة السورية الشرعية والتخلي عن أوهامه بإسقاط النظام السوري والعودة لاتفاقية أضنة. وبحساب الأرباح والخسائر يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي انسحب من سورية، غير خاسر لأن وقف الإنفاق على الحروب سيفيده انتخابياً. الخاسر الأكبر يبدو المجموعات الانفصالية المسماة «قسد» ومن يدور بفلكها. إسرائيل، من بين الخاسرين، لأنها كانت تدعم بشدة إقامة دولة كردية في سورية. الاتحاد الأوروبي، من الخاسرين أيضاً، وهو الذي كان يقف ضد تركيا داعماً الأكراد.
عملياً أمام تركيا أردوغان صعوبات وتحديات كبيرة، ليس أقلها نقص الأموال اللازمة لتأمين إقامة أتباعها من اللاجئين والإرهابيين في الأراضي السورية التي احتلتها. النقطة الغائبة عن الاتفاق، هي إدلب التي ستعود إلى حضن الوطن السوري.
في صحيفة «غازيتيه دوار» التركية كتبت مهدان صاغلام مقالة بعنوان «نحو أيام أسدية من جديد في سورية»، قائلة: إن اتفاق سوتشي أبطل الخطاب التركي برحيل الرئيس الأسد وألزم تركيا للتعامل مع الدولة السورية، وخلاصة الاتفاق، بحسب الكاتبة، أن الحرب في سورية انتهت، وأن الأسد سيعود حاكماً مطلقاً، وأن خريطة سورية الجديدة تتشكل خطوة خطوة وفقاً لما تريده روسيا وإيران وسورية.
المرحلة المقبلة تتعلق بغربي الفرات، وخصوصاً إدلب، لاشك أن زيارة الرئيس بشار الأسد إلى خطوط التماس مع إدلب بدت كما لو أنها إطلاق إشارة استعادة إدلب المحتلة. السؤال هو حول تموضع «قوات الحماية» الكردية في المرحلة الجديدة، حيث تقول واشنطن إنها ستواصل التعاون معهم في حقول النفط، بينما يقولون إنهم إلى جانب استمرار الحوار مع دمشق.
بعد تطبيق اتفاقية سوتشي وإنهاء الوضع في إدلب، ستكون تركيا مدعوّة إلى تطبيق البند الأول من الاتفاق حول وحدة سورية وسلامة أراضيها. وبالتالي ليس أمام تركيا سوى الانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها.
رغم أن الرئيسين بوتين وأردوغان يتبنيان مصالح متباينة في سورية إلا أنهما يظهران بمظهر المتحالفين.
كما في قمة سوتشي، كان قرار ترامب سحب قواته من أجزاء واسعة من المناطق الحدودية تمهيداً للهجوم التركي على شمال وشرق سورية.
وبعد عملية الانسحاب هذه مهدت موسكو، الطريق أمام انتشار الجيش العربي لسوري في شمال وشرق البلاد. فقد أجبر الروس الأكراد أيضاً على الدخول في حوار مع الدولة السورية، وذلك بعد أن خذلتهم أميركا ورأوا أنفسهم تحت رحمة الأتراك. وذهبوا إلى المباحثات المباشرة مع الدولة السورية.
يرى خبير الشؤون الخارجية الروسي، فيودور لوكيانوف، أن روسيا أصبحت الفاعل الوحيد والحقيقي في المنطقة. وأصبح الكرملين الآن يجني ثمار سياسته الدؤوبة ودبلوماسيته المرنة، حسب تعبيره. ويقول لوكيانوف إن موسكو لم تنجر إلى تحالفات، بل تحدثت مع الجميع.
تسعى روسيا للتوصل إلى حل سياسي بشأن الحرب في سورية، إلا أن التدخل التركي في شمال سورية أربك برامج روسيا، بجانب توجس روسيا من خطر عناصر تنظيم داعش الإرهابي السجناء.
أخيراً رغم كل الحذر والشك بنيات أردوغان وأطماعه العثمانية، وربما عدم اليقين فيما يتعلق بالتطورات التي لا يمكن توقعها، نقول إن انعقاد قمة سوتشي في الوقت الذي وجه فيه الرئيس بشار الأسد رسائل قوية وواضحة من بين قواته المرابضة على حدود إدلب المحتلة، يؤكد أن سورية في المراحل الأخيرة على طريق النصر النهائي.