عُرف الدمشقيون بولعهم بالخضرة والماء والمناظر الخلابة، فكانوا يقومون بما يعرف بالسيران، أكان ذلك إلى غوطة دمشق، أم إلى المنطقة الغربية من مدينة دمشق، على ضفاف نهر بردى. كانوا يقصدون الغوطة بفصل الربيع، حيث تزخر به من بساتين مترعة بالخضرة والأزهار التي تكلّل الأشجار، وتزين الأرض بالأزهار البريّة البيضاء والصفراء والحمراء، كما هي الحال بالبستان الخامس وبستان البلعوط، وكذلك الشيخ شمعون والقنابة.
أما سيرانهم بفصل الخريف والصيف، فهو على الأغلب يكون بمناطق الربوة والشاذروان والمقسم، لما تزخر به من التخوت المقامة على نهر بردى وفروعه وضفافه.
فإن كان سيرانهم إلى الغوطة الشرقية بوجه خاص، كنت ترى صاحب البستان الذي يقصدونه في سيرانهم، يرحب بهم، فيسهل لهم الإقامة بما يقدم لهم من الماء، ومما يتوافر بالبستان من الحليب الطازج، والفول الأخضر، والجانرك وأيضاً القرعون، وغير ذلك من ثمار البستان مما لا يخطر على بال.
وما زلت أذكر الحاج أبو رجب النسرين واستقباله للسيرنجية ببستانه القريب من بلدة دوما القريبة من مدينة دمشق، وكذلك الحاج الإنكليزي واستقباله للسيرنجيه ببستانه بالغوطة الشرقية، وما يقدم لهم من ثمار بستانه، حتى إنه استضاف العديد من القادمين إلى بستانه بمنزله عند نزول الأمطار على أراضي الغوطة، وقدم لهم الطعام والشراب، مع آيات الترحيب لهم.
كانت الغوطة مقصد السيرنجيّة بفصل الربيع وكانوا يقصدون الغوطة، رجالاً ونساءً شيباً وشباناً وأطفالاً، وكان منهم من يرغب في الجلوس بظل شجرة، ومنهم من يفضل الجلوس بجوار ساقية ماء، أما طعامهم فغالباً ما يكون من مقلي الباذنجان والبطاطا والكوسا، ومنهم من يحضّر طعامه من صفائح اللحم بالعجين وفطائر الجبنة والزهرة وهم يتساكبون طعامهم مع من يجاورهم من السيرنجيّة وفي كون طعامهم من شواء اللحم، كانت الجماعة منهم يتقاسمون إعداد الطعام، فهذه تشعل النار اللازمة للشواء، وهذه تجعل اللحمة على الأسياخ الخاصة لها، وأخرى تقوم بعملية الشواء، فضلاً عمن تقوم بإعداد السلطة… أما الرجال فكان منهم من يدخن الأركيلة (النارجيلة) أو اللعب بورق الشدة ومنهم من يلعب مع آخر لعبة من ألعاب طاولة الزهر، وكان من أطراف ما يدور بين اللاعبين أن يتمألس الغالب على المغلوب، بأقوال طريفة من المزاح، لإثارة جوّ من المرح بين الحضور.
وكنت ترى الأولاد يشاركون أندادهم اللعب مع أبناء السيرنجيّة الآخرين، أما الأطفال فهم في عالم آخر بهذا السيران.. كان منهم من يلاحق الفراشات من زهرة إلى أخرى، ومنهم من يعمد إلى خطف الأزهار البرية ليقدمها إلى والدته، إذا جهز الطعام يتحلق الجميع حول سفرة الطعام يتناولون طعامهم جلوساً على الأرض، بلذة وشهية، وكان من الطريف في ذلك أن تمسك إحداهن اللقمة تتناولها، فإذا هي تشتهيها لإحدى الجالسات معها على الطعام.
وإذا كان السيران بفصل الربيع غالباً ما يكون بالغوطة، فإن من الممكن أن يقصد السيرنجية منطقة الربوة، فإن ذلك لا يمنع أن يكون هذا السيران بمنطقة الربوة أو المقسم بل الشاذروان على ضفاف نهر بردى، ذلك أن السيران على هذه الضفاف، يوفّر ما يصبو إليه السيرنجية من المياه والنّسيم العليل، والمناظر الخلابة، فضلاً عن الغياض بأشجارها وأزاهيرها البرية المنتشرة هناك وهناك.
ولا نزال نجد بهذه الأيام، من يقوم مع صديق له أو أكثر، بسيران إلى إحدى المناطق الممتدة بين الربوة والشاذروان، يتناولون طعام الإفطار أو يدخنون الأركيلة (النارجيلة) مع كأس من الشاي.. ثم ينصرف كل منهم إلى عمله المعتاد.
فضلاً عن ذلك، فقد كان للسيران بالقطار، متعة كبيرة، فالقطار بهذا السيران يتلوّى بين أحضان الرياض، تارة على زند النهر، وتارة يخترق الأشجار المتعانقة، حتى تكاد أغصانها تدخل نوافذ عربات القطار، السيرنجية على جانبي طريق القطار يلوّحون بأياديهم، مستقبلين للسيرنجية مرحّبين أو مودّعين، وهم يلتقطون الصور التذكارية للمشاهد التي يمرّ بها القطار وهو يقدم المشهد تلو المشهد لجنبات النهر وواديه برحلة من دمشق إلى الزبداني فسرغايا، مروراً بالربوة، ودمّر والهامة، وبسيمة وعين الخضراء والتكية فالزبداني ليوصل كل جماعة من السيرنجية إلى مقصدها بأمان..
سقى الله أيام زمان، يوم كان الناس يقولون: أحسن دوا شمّ الهوا.