ثقافة وفن

أوغاريت حاضرة التاريخ من الألف الثاني قبل الميلاد مركز تجاري بين المدن والدول

| المهندس علي المبيض

احتلت سورية مكانة مرموقة في مجال العلم والثقافة والسياسة والفنون والأدب خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وكانت تعتبر هذه المنطقة مهداً فريداً للحضارات وشرياناً حياً للعالم القديم فكل حجر في أرض سورية الطاهرة له قصة وحكاية وكما ذكر الدكتور عفيف بهنسي رحمه اللـه «تحت كل حجر هنالك كنز حقيقي فامش على أرضها بتؤدة».
الرحلة إلى مملكة أوغاريت رحلة شيّقة تأخذك فيها عبر الزمن لتشهد على عظمة التاريخ السوري ودور السوريين الحضاري والذي استمر دون انقطاع آلاف السنوات رغم كل الحروب والفتن والكوارث التي وقعت على هذه الأرض الطيّبة ورغم كل ما يحاك ضدها وعبر تاريخها الطويل والتي أكدت بأن الحروب والكوارث قد تستطيع أن تهدّم المباني وتدمّر المدن إلا أنها لا تستطيع على الإطلاق أن تدمر حضارة سورية أو تكسر إرادة السوريين.

تم اكتشاف مملكة أوغاريت صدفةً عام 1929م، عندما كان أحد المزارعين يعمل في حقله حينما اصطدم محراثه بإحدى الصخور والتي تبين فيما بعد أنها سقف لمدفن أثري قديم ومنذ تلك الفترة بدأت عمليات التنقيب لتكشف عن مملكة تعتبر من أهم المواقع الأثرية وأكثرها شهرةً في العالم، وقد اتفق الباحثون وعلماء الآثار أن أوغاريت كانت من أشهر الممالك السورية في تاريخ الشرق القديم ويتّضح لنا من خلال الوثائق والمخطوطات التي تم اكتشافها في تل رأس شمرا في محافظة اللاذقية أن مملكة أوغاريت كانت في الحقبة الثالثة من عصر البرونز الحديث مركزاً حضارياً مزدهراً وأنها وصلت إلى مستوى ثقافي وفني مرموق جداً وتشرح تلك الوثائق علاقات أوغاريت السياسية والاقتصادية مع الممالك المحيطة بها، كما تفسر سبب وجود الغرباء فيها وتبرز دورها الريادي والفاعل وتأثيرها الحضاري في تلك الحقبة.
فعلى الرغم من أن أوغاريت تطوّرت وازدهرت في الألف الثاني قبل الميلاد وكانت مركزاً تجارياً هاماً يتم فيه تبادل البضائع بينها وبين المدن المجاورة إلا أن تاريخها يعود إلى أقدم من ذلك بكثير إذ تعود أقدم منشآت مملكة أوغاريت المكتشفة إلى العصر الحجري الحديث وبالتالي نستطيع القول إن موقع أوغاريت كان مسكوناً منذ الألف السابع قبل الميلاد.
وقد بيّنت التنقيبات الأثرية أن الموقع الأثري في تل رأس شمرا يقسم إلى خمس سويات أثرية رئيسية:
السوية الأولى: 1600 – 1200 ق. م (عصر البرونز الحديث).
السوية الثانية: 2100 – 1600 ق. م (عصر البرونز الوسيط).
السوية الثالثة: 3000 – 2100 ق. م (عصر البرونز القديم).
السوية الرابعة: 6000 – 3000 ق. م (العصر الحجري النحاسي).
السوية الخامسة: 8000 – 6000 ق. م (العصر الحجري الحديث) حيث اعتبرت أوغاريت في هذه السوية نواة أولى للقرى الزراعية ونمت القرية البدائية شيئاً فشيئاً وشكّلت أحد منعطفات تطور الإنسانية إذ سيطر الإنسان على الطبيعة ولم يعد عبداً لها ولا يخضع لتقلباتها حيث شهدت أوغاريت استقرار الرعاة وتحولهم إلى مزارعين والانتقال من حياة التنقل والترحال والسكن في الكهوف والمغاور إلى حياة الاستقرار والسكن في البيوت وتحول الإنسان من كائن يعيش ضيفاً على الطبيعة يتناول ما يجد في طريقه من الثمار والصيد إلى كائن ينتج قوت يومه، وانتقل الإنسان من صياد يصطاد ليأكل إلى منتج وتاجر، فمارس الأوغاريتيّون الزراعة ودجّنوا الحيوانات وصيد الأسماك وتربية المواشي وخزّنوا الحبوب والمؤن وهذا مؤشر الاستقرار، كما أدت مزاولة الزراعة إلى عدة اختراعات متتالية زادت من كمية المحاصيل ووفرتها مثل آلات حرث التربة وتخزين الثمار وطرق تخزين الحبوب وأدوات طحنها وكيفية تحويل القمح إلى رغيف خبز، ومن الطبيعي فإن ممارسة الزراعة وازدهارها رافقه بالضرورة تطور تقنيات الصناعات الحرفية والفخارية وساهم أيضاً في تطور الفنون في مناحيها المجتمعية والفردية وبالطبع فإن تطور هذه الفنون انعكس على المباني والطراز المعماري الذي كان سائداً وأوضح مثال على ذلك هو القصر الملكي الذي كان فريداً في عصره ويدلّل على حرفية المعمار السوري وخبرته التراكمية والتي جعلت القصر هو الأهم في المنطقة وأحد الأمثلة التي تعبّر بشكل واضح عن العمارة السورية القديمة ويكفي أن نستدل على جمال القصر الملكي في أوغاريت من رسالة بعث بها ملك بيبلوس إلى فرعون مصر «امنحوتب الثالث» في النصف الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد يخبره فيها عن انقلاب جرى في مملكة صور ومما جاء في الرسالة «ليس من مسكن يشبه قصر صور كقصر أوغاريت فالثروة المتواجدة فيه عظيمة وبلا حدود».
كما تضمنت الوثائق المكتشفة في أوغاريت نصوصاً تشير إلى وجود متخصصين بعملية تلقيح شجر النخيل وهذا يدل على أن المنطقة كانت تضم شجر النخيل، وانتشرت زراعة الكروم والزيتون وأدّى ذلك إلى تنشيط صناعة النبيذ وزيت الزيتون.
كما نشطت تجارة الأخشاب وزاد الطلب عليها في تلك الفترة لاستخدامها في بناء المساكن والسفن التجارية ومما ساعد في ذلك كثافة الغابات على امتداد الساحل السوري حيث كانت المناطق المحيطة بأوغاريت مناطق غابات كثيفة، وكان يشكل الوصول إلى البحر المتوسط والحصول على الأخشاب حلماً للعديد من الملوك وكان له الأثر في زيادة الاهتمام بتلك المنطقة. شكّل موقع أوغاريت الإستراتيجي والقريب من المرفأ ووقوعه على مفترق طرق التجارة الرئيسية المعروفة في تلك الحقبة والتي تربط بين مصر في الجنوب والشمال وبين بلاد مابين النهرين في الشرق والبحر الأبيض المتوسط شكّل دوراً رئيسياً في ازدهارها فأبحر أبناء أوغاريت من المرفأ حاملين معهم بضائعهم، إذ كانت أوغاريت تملك أسطولاً كبيراً يتكون من 150 سفينة تجوب البحار حاملة منتجات أوغاريت الزراعية والمعدنية والحلي والمصوغات والأسلحة، كل ذلك كان من ضمن الأسباب الرئيسية التي أدت لازدهار التجارة فيها وتطور الصناعات اليدوية وتنشيط حركة التبادلات التجارية بين أوغاريت والعديد من الممالك في تلك الفترة وتكونت صادرات أوغاريت الرئيسية من صناعاتها اليدوية والتي برع بها الأوغاريتيون ومنتجاتها الزراعية كالحبوب وزيت الزيتون والنبيذ والعسل والأخشاب والأصواف، أما وارداتها فكانت المعادن الثمينة والأحجار الكريمة والقصدير والحلي والجواهر والتي شكّلت نسبة جيدةً من مستورداتها، حيث تم العثور خلال التنقيبات الأثرية على العاج المستورد من الهند واللازورد المستورد من أفغانستان…. وغيرها، لذلك كانت قوة أوغاريت اقتصادية أكثر منها عسكرية، كما ساعد موقعها القريب من الساحل على انفتاحها على ثقافات وديانات وعلوم وفنون الشعوب الأخرى وساعد ذلك على ازدهارها وتطورها عبر تاريخها الطويل.
نقطة مهمة لابد من الإشارة إليها وهي أنه تم العثور خلال التنقيبات الأثرية التي تمت في مملكة أوغاريت على أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة رقيم فخاري تضمنت وثائق مكتوبة بلغات متعددة كالسومرية والأكّادية والحثية والحورية والقبرصية وهذا يدل على تعدد الأعراق والأطياف والألوان التي كانت تستوطنها ويدل على طبيعة التعايش التي كانت صفة ملازمة لأهل بلاد الشام منذ القدم كما يدل أيضاً على النشاط التجاري والاقتصادي المتقدم وفرص العمل المتوفرة فيها وتبيّن الوثائق المكتشفة أيضاً ما تشكله التجارة من أهمية بالغة لدى مملكة أوغاريت حيث تضمّنت عدة اتفاقيات قامت أوغاريت بعقدها مع الممالك الأخرى المجاورة تتعهّد بحماية التجار وسلامة بضائعهم وثرواتهم وهذا يدل على الحالة التنظيمية المتقدمة للوضع الاقتصادي والتبادلات التجارية بينها وبين المناطق المجاورة.
وأشهر اللقى الأثرية التي تم اكتشافها في أوغاريت واعتبرت بسببها من أهم الحضارات التي قامت في سورية في العالم القديم هو الرقيم الذي يحتوي على أبجدية أوغاريت والتي تعتبر من أعظم الاختراعات التي عرفتها البشرية وهي أقدم أبجدية في التاريخ ومن الضروري القول بأن اختراع أبجدية أوغاريت لم يكن من قبيل المصادفة بل كانت البيئة الثقافية والعلمية في أوغاريت مهيأة لذلك تماماً، فقد كان يلتقي فيها التجار من مختلف أنحاء العالم حاملين معهم علوماً وثقافات متعددة، واستوعب أبناء مملكة أوغاريت هذه العلوم فهضموها وأضافوا إليها علومهم وثقافاتهم التي تشكلت من تراكم نتاج الحضارات العديدة التي مرت على هذه المنطقة، وتبلغ مساحة الرقيم الطيني (5.5 سم × 1.3 سم) نقشت عليه أبجدية أوغاريت وهي عبارة عن ثلاثين حرفاً ساكناً كتبت بالأحرف المسمارية من اليسار لليمين على ألواح طينية تجفف تحت أشعة الشمس أو تشوى في أفران مرتفعة الحرارة.
صوّبت تلك المكتشفات الاعتقاد الذي كان سائداً لدى المؤرخين والباحثين من أن الحضارات انتقلت إلى سورية من منطقة النوبة والنيل في مصر ومن بلاد الرافدين، وأكدت أن سورية هي بلد صانع للحضارة وليست متلقية لها فقط، حيث ساهمت الحضارات التي قامت فوق هذه الأرض الطيبة في صياغة الحضارة الإنسانية ولعبت الاختراعات التي قدمتها للعالم دوراً كبيراً في تقدم جميع مناحي الحياة.
مملكة أوغاريت صفحة من صفحات التاريخ السوري المشرق والحافل.

مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن