قضايا وآراء

موسكو.. بعد «الدافئة» نزوع نحو «الحارة»

| عبد المنعم علي عيسى

يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيداً إبان محاولاته لترسيخ روسيا كقوة عالمية تحظى باعتراف غربي لحقائق افتقاد الكيان لعوامل قوة كان السلف السوفييتي متمتعاً بها، وفي الذروة منها اثنتان أولاهما هي وفرة الموارد التي كانت تتيحه الجغرافيا المتنوعة والمترامية الأطراف، وثانيهما جاذبية العقيدة التي كانت كافية في أحايين عدة لوحدها لتوفير جسر عبور إلى مناطق كانت ترى نفسها أنها بأمس الحاجة إليها، إلا أن فعل السياسة إذا ما أتقن التشخيص السريري فإن ذلك يصبح مدخلاً مهماً في معالجة عوامل القصور حيث لا يمكن لتطور الأدوات الأخرى أن يكون بديلاً لاغياً له بأي حال من الأحوال.
شكلت القارة الإفريقية على امتداد القرنين الماضيين منطقة نفوذ فرنسية بالدرجة الأولى بفعل الاحتلال تارة ثم بفعل تمدداته التي أوجدها ما بعد انحساره المباشر وهي تمظهرت عبر ذراعين اثنين أساسيين أولاهما مالي مثلته سطوة الفرنك الفرنسي وثانيهما ثقافي تجلى في منظمة الفرانكفونية التي استهدفت القارة الإفريقية بالدرجة الأولى، إلا أن ذلك النفوذ كان قد شهد بدءاً من الربع الأخير للقرن الماضي تراخياً بالتزامن مع تمددات غربية وصينية، وهي سجلت أيضاً اختراقات مهمة للكيان الإسرائيلي من دون أن يعني ذاك أن هذي الأخيرة تعيش حالة من الندية للحالتين السابقتين قياساً إلى ضآلة الكيان وحجوم طاقاته وإن كانت شديدة الأهمية تبعاً لتداعياتها على الأمن القومي العربي والنظام الإقليمي عموماً.
حقق النفوذ السوفييتي في إفريقيا ثقلاً وازناً في مناطق ثلاث أولها في مصر التي تلقى فيها ضربة كبرى بعد طرد أنور السادات للخبراء السوفييت في تموز من عام 1972، وفي أنغولا عبر الحركة الشعبية للتحرير التي أقامت بدءاً من عام 1975 نظاماً ماركسياً لينينياً، وفي إثيوبيا عبر حزب العمال الذي أسس لنظام مشابه بدءاً من عام 1984، كان السقوط السوفييتي الحاصل 1991 إيذاناً بخروج لا يعرف إلى متى يمكن له أن يستمر بعد أن كان سحر الأيديولوجيا هو الوحيد الذي يجري الرهان عليه للبقاء أو التمدد.
شكلت القمة الروسية الإفريقية الأولى في سوتشي 24 من تشرين الجاري والتي تقرر أن تكون دورية كل ثلاث سنوات حالة خروج من الحالة السابقة وهي أشبه بزواج «منفعة» ما بين روسيا الاتحادية الطامحة في صعودها نحو العالمية والمدركة بأن تأمين خيوط التمكين في آسيا الوسطى عبر كل من دمشق وبغداد وطهران بات يحتاج بعد النجاحات التي حققها إلى تحصين مواقعه عبر توسعة فضاءاتها، وبين القارة السمراء التي تبحث لدى الأولى عن حلول لمشاكل في الطاقة وفي بنى تحتية تبدو معوقة في أداء مهام الارتقاء الملقاة على عاتقها، وهو، أي زواج المنفعة، سيمثل ورقة قوة روسية لتثبيت الصورة أمام الغرب يمكن من خلالها التأكيد على أن الصعود ماض بنجاح في سياقاته التي اختطها ولا يزال منذ أن تبنت موسكو نهج «البوتينية» سبيلاً إلى ذلك الصعود.
كان ثقل التمثيل البارز لافتاً قياساً إلى أن القمة هي في طبعتها الأولى ومن الصعب معرفة لونها أو مذاقها، فالقارة التي ترزح تحت وطأة الحرارة كانت تشتهي كما يبدو تبديل المناخات وتجريب البارد منها، وإلا ماذا كان يعني دفتر الحضور الذي لم يسجل أي حالة غياب لأي من دول القارة الـ54 واللافت هو أن 43 منها تمثلت برئيسها، أقبلوا جميعهم محملين بهموم عديدة، والبعض منهم بأزمات ساخنة لعل لدى البراد الروسي فرصة للنجاح في خفض حرارتها أو لربما يساعد في إدخالها طور الحفظ إن لم يستطع التحنيط لارتفاع التكاليف، ومن الجائز القول: إن ذلك البراد قد استطاع تحقيق مهمة كهذه عبر وضع النزاع المصري الإثيوبي في «الفريزة» وإن كان بشكل مؤقت بمعنى أن من الصعب له أن يستطيع تجميده لفترة طويلة تبعاً لاحتوائه على نسبة عالية من «الدسم» السريع الفساد، حيث تباشير هذا الأخير الساخنة كانت تبدي ميلاً إلى رفض دور التبريد أصلاً، فقبيل أيام من انعقاد القمة كان إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في جلسة استجواب أمام برلمان بلاده عن قدرة هذي الأخيرة لحشد ملايين المقاتلين «من الفقراء الذين يشكلون ربع عدد سكان إثيوبيا» إذا ما اقتضت الضرورة لخوض حرب مع «دولة إفريقية» في إشارة إلى مصر على خلفية النزاع معها حول سد النهضة بعد أن أعلنت القاهرة قبل أسابيع عن وصول المفاوضات مع أديس أبابا إلى طريق مسدود.
في الإطار العام تبدو القمة الروسية الإفريقية استنساخاً للمنتديات الصينية الإفريقية التي سمحت لبكين أن تصبح شريكاً أول للقارة، إلا أنها في العمق تبدو مشروعاً يغوص إلى أبعد من ذلك، فعلى الرغم من أن موسكو تبدو بعد مضي خمس سنوات على العقوبات الغربية التي أقرت بحقها في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم 2014 أحوج ما تكون لشركاء جدد وأسواق بكر لتعزيز نموها الاقتصادي الذي تبدى في خلال العامين الأخيرين وكأنه يثير قلقاً مشروعاً، إلا أن المحاولة الروسية تتعدى النسخة الصينية التي اعتمدت كسر الأبواب المغلقة عبر فعل إزميل الاقتصاد بعيداً عن تسويق الأديولوجيا، وإن كانت تحتوي الشيء الكثير منها وهو ما يظهر في التركيز على مضاعفة التبادل التجاري البالغ 20 مليار دولار من دون تدخل سياسي أو الانغماس في مشاكل عدة لا أحد يعلم أين تبدأ وأين ستنتهي، لكن ما يلاحظ هو أن هذا الفعل الأخير ليس غائباً تماماً والنسخة المعتمدة فيه هو لمسة الـTauch بديلاً عن «الانغماسية» السياسية التي أثقلت عبء السلف السوفييتي السابق.
تدرك موسكو أن الطريق الموصل إلى عمق القارة السمراء هو طريق طويل ثم إن دونه عقبات كبرى، لكن متى عرف الروس الاستكانة منذ أن وصل هذا القيصر إلى السلطة عبر طرقات لم تكن صعبة فحسب بل وكانت في بعض محطاتها أشبه بمنعرجات تبدو وكأنها لن تفضي إلا إلى الهاوية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن