الأولى

أفعال بوتين وأوهام أوباما وأحلام هولاند!

تتميز أعمال الجمعية العمومية في دورتها السبعين للأمم المتحدة المقامة حالياً في نيويورك، بالحضور القوي لسورية على منابرها وفي كواليسها، وبالفارق الكبير بين سياسات الدول والصراع القائم بين قوى الحق وقوى الهيمنة والشر، وبين زعماء وقادة منهم من يمتلك خطة وبدأ تنفيذها ومنهم من لا يزال يتوهم، وآخرون حالمون ومتقلبون وتائهون يبحثون عن أي دور يمكن أن يسند لهم ليعودوا ببلادهم إلى الصدارة بعد أن قادوها إلى الهاوية.
في نيويورك كان لافتاً ذلك الصراع الدبلوماسي في الخطابات، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يحضر أعمال هذه الدورة للمجاملة أو لإلقاء التحية على قادة الدول الحاضرة، بل قطع كل هذه المسافة ليعلن للعالم بأن زمن القطب الواحد انتهى، وأن روسيا اليوم لم تعد تلك التي تقبل بما يقرره الآخرون، وعاد بالحضور إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية ليذكرهم بعظمة روسيا ودورها المحوري في مكافحة قوى الشر والهيمنة، وليؤكد عودة بلاده مجدداً إلى دورها السابق في خلق توازن عالمي يمنع قوى، لم يسمها مباشرة، في فرض أجندة مصالحها مخالفة القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة مستخدمة الإرهاب لتحقيق مآربها دون وعي خطورة هذا الإرهاب الذي لن تسمح له روسيا بمزيد من الانتشار.
حضر الرئيس بوتين مسلحاً بخطة، وبخطوات عملية على الأرض، وبغرفة عمليات مشتركة لتبادل المعلومات في بغداد وبالتحضير لاجتماعات دولية وتنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب، حضر ليطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ووقف تدفق الإرهاب والإرهابيين ومحذراً من سياسة بعض الدول التي أنهكت العالم وأسست لمجموعات متطرفة تهدد البشرية جمعاء.
خطاب الرئيس بوتين سبقه خطاب للرئيس الأميركي باراك أوباما، ففي حين كان الرئيس الروسي واضحاً وصريحاً في مقاربته للأحداث وخاصة في الشرق الأوسط، ودور روسيا الماضي والمستقبلي، كان رئيس الولايات المتحدة الأميركية واهماً كمن يلقي محاضرة عن دور بلاده وقوتها العسكرية والاقتصادية ويوزيع شهادات حسن السلوك على دول وقادة، ناسياً أو متناسياً الإخفاق الكبير لسياسة بلاده ولاسيما في الشرق الأوسط، وعجزه عن تحقيق أبسط الأهداف وآخرها كان إنفاقه 500 مليون دولار لتدريب من يسميهم بـ«المعتدلين» الذين سرعان ما سلموا أنفسهم وسلاحهم لتنظيم القاعدة حتى وصف برنامج أوباما بـ«المزحة السمجة» من قبل أعضاء في الكونغرس الأميركي حين علموا أن من بين الذين دربتهم واشنطن وأنفقت المال عليهم لم يبق سوى 4 مقاتلين يناصرون الولايات المتحدة الأميركية وما تبقى انضم إلى صفوف أخطر تنظيم إرهابي تحاربه الولايات المتحدة منذ عام 2001!
ما بين الرئيسين بوتين وأوباما، برز التائهون من أمثال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي بات جنبلاطي السلوك تجاه الحرب على سورية، ويتقلب كما تتقلب الرياح في تصريحاته التي بدت في نيويورك وكأنها خارجة عن السرب والواقع والمنطق حين أعاد طرح «المنطقة العازلة في الشمال السوري لإعادة المهجرين إليها»!
لا شك أن فرنسا في مأزق، فبعد أن كانت تقود الأعمال الإرهابية في سورية تحت عنوان دعم «المعارضة» وجدت نفسها فجأة مغيبة عن خارطة المنطقة بعد الحضور الروسي القوي والتفاهمات مع واشنطن، حتى إنها لم تدع إلى مجموعة الاتصال حول سورية، كما أن أحداً لم يكترث للضربة الجوية التي شنتها مقاتلات فرنسية على «مخيم تدريب في دير الزور» لا تزال حتى الآن نتائجه مجهولة.
إن الأحداث والتحولات السياسية المتسارعة جعلت من دول، مثل فرنسا، تتوه في متاهات لعبة الكبار وتبحث عن أي دور مهما كان الثمن حتى لو كلّف ذلك تصريحات سخيفة يمكن أن تلفت انتباه العالم ليس إلى أفكار فرنسا بل إلى غبائها، فيراضيها الكبار ربما بدور صغير يشركها في الحرب على الإرهاب قبل أن يجتاز حدودها ويهدد أمنها، وهذا ما تخشاه كواليس الإدارات الفرنسية التي تضغط بقوة على رئيسها لتغيير مواقفة العدائية تجاه دمشق والشروع في إقامة اتصالات سريعة قبل فوات الأوان، لكن الأخير لا يزال متمسكاً بمواقف «حليفيه» في دعم الإرهاب: السعوديين والأتراك، ومع السعوديين لأنهم وعدوا بإنقاذ فرنسا من الانهيار الاقتصادي، ومع الأتراك لأن هولاند بحاجة إلى تعاونهم الأمني وصمتهم تجاه كل ما سبق من أحداث من شأنها أن تورط أكبر دول العالم بتهمة دعم الإرهاب.
إذاً عادت سورية لتكون قلب العالم، وبصمودها أعادت التوازن إلى السياسة الدولية وأسقطت كل أقنعة الرؤساء والزعماء والملوك والمشيخات الذين كانوا ينادون بالحريات والديمقراطية فتبين للعالم أجمع أنهم أكبر داعمين للإرهاب الدولي.
لقد فرضت سورية واقعاً عالمياً جديداً جسده خطاب الرئيس بوتين ورفض الاعتراف به الرئيس أوباما، وما بين هذا وذاك يبقى من يطمح للالتحاق بالتسوية الآتية، ولعل أهم من الخطابات على المنبر الأمني ما يجري في كواليس الجمعية العمومية من نقاشات وتفاهمات لن تكون إلا مرآة للواقع على الأرض، وهذا الواقع صنعته سورية ودعمته روسيا والحلفاء، ولا بد أن ينتصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن