ثقافة وفن

ذوبان في الآخر لإدراك الذات … انتصر يا نسيان.. ترهل الأرق.. تشظى القلق..

| إسماعيل مروة

استمع إليه منصور الرحباني، طالت مجالسته له، قرأ شعره، ورآه جديراً بالنشر، وبخط يده كتب له مقدمة بماء صداقة وأدب قلّ مثيلهما، ومنصور الرحباني نعرفه بإبداعه ووضوحه في الحكم على الأشياء، يقول لصديقه إلياس دعبول:

«مشتعل غضباً هذا الرجل
يأتي من أقاصي إفريقيا
ليتفجر على قمة من لبنان شمالية
عاصفة يأتي
يستنهض الناس
يعترضهم في الشوارع
يبكي، يحزن، يثور
وشعبه حبه الأكبر
إلياس دعبول صديقي
كذلك شعره»
منصور الرحباني لا يقول جزافاً أو مجاملة، وهو كتب شهادته هذه لشعر صديقه لتكون مقدمة عام 1993، لكن أقاصي إفريقيا التي يذهب إليها الشاعر أو يعود منها أخذته طويلاً وبعيداً، وعمله أخذه من أدبه أكثر من ربع قرن، وحين أراد الشاعر أن ينشر ديوانه طلب السماح من منصور في رقدته الأبدية، لأن هذا الشعر لو نشر قبل ربع قرن من اليوم لكان فاتحاً لشهية الشاعر ليتبعه بدواوين كانت ستحقق للشاعر اسماً على خريطة الشعر اللبناني والعربي، وهو صاحب الخط الفكري والنهج الذي لم يتغير أثناء إبداع الشعر، ولم يتغير بعد ثلاثة عقود، وها هو الشاعر بضمير الذات التي تحترم الآخر، يعيد النظر في جملة أشعاره ليقدمها للمطبعة وجلاً في مقام الشعر والكلمة، وهو يدرك أنه يقول شعراً فكرياً من النسق المختلف في كل تفاصيله شكلاً ومضموناً، وهو صديق العميق منصور الرحباني، ومجالس الكبير سعيد عقل، وكلاهما يقدّر ما لدى الشاعر من شاعرية وفكر.

الذوبان والآخر
صدر ديوان إلياس دعبول (الذوبان) في دمشق عن دار الشرق، وفي اختياره دمشق لولادة ديوان بشّر به الرحباني قبل ربع قرن دلالة على عشقه لدمشق وسورية، وعلامة على ذوبانه وتماهيه مع ذاته والمحيط والآخر، وعند قراءة الديوان نكتشف إشارات منصور الذكية والناقدة في البكاء والحزن والثورة.
لا تحملوا أكاليل الغار
وراء نعشي
لا تطلبوا من تلاميذ المدارس
رش الزنابق والورود فوق ضريحي
لا تسلبوها آخر أساور الزينة
زوج واستشهد
ولد وذبح
رضيع وتشوه
كثر زارعو الطحلب
قلّ حاصدو الزؤان
كثر سارقو الاختصاب
كثر مغتصبو الصبايا
لا تأخذوا منها
آخر البقايا
كم هو مؤلم هذا النص الذي يتحدث باسم الشاعر، وباسم الشهيد، وباسم الوطن، باسم كل من سلبه الناس الحياة الجميلة يودعونه وداعاً يليق بهم لا به، هو لا يعنيه كل ما يرتبكون من مظاهر، وهو يدرك أنه ارتكاب، لكنهم سيفعلون لأن ذواتهم هي التي تحرص على أن تفعل كل هذا، ليقال عنهم، لا ليقال عنه، فهو مستمر في ندائه على المروج وعفة الأرض.
وها هو في الوقت يفلسفه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً:
في حضرة الموت
يصطرع التاريخ
تتجمد الحضارات
الوقت!
يا منفى الماضي
وجرح المستقبل

بحثاً عن فهم الفكر
إن أشعار إلياس دعبول تأملية وعميقة، وتحمل رمزاً واضحاً مكشوفاً لقارئه، لأنه لا يؤمن بالطلسم أو الرمز المغرق في الإبهام، ومع ذلك فإن نصوصه تحتاج إلى أكثر من قراءة للوصول إلى جوهرها.
في أمسيات القرار
ينكفئ معظم الرجال.. الكبار!
ينفتح الستار!
تتكشف خبايا الأسرار
فتضارب الأفكار
تتصارع الأسرار والأخبار
كل هذا، في أمسية قرار
وتحمل هذه القطعة المثيرة والمحفزة اسم قرار.. وهذا يعطينا مؤشراً في شعر الشاعر وقراءته، فهو لا يكتب شعراً للتغني والشهرة، وإنما يكتب للتأمل والتدبر، وهو شاعر لقضية يحبها ويعشقها وتشكل هاجساً بالنسبة إليه ولننظر إليه كيف يخاطب الحقد:
نم
ولو لدقيقة
احترق
لمجد الحقيقة
تهيّب أيها القاتل!
هتاف المسافات
لا يرحم الخطيئة
وحتى في مقطوعة الحب لا يتغنى بمن يحب، بل يجعلها أيقونة في الفكر، لتكون القطعة بخاتمتها مدهشة وغريبة.
إلى الحبيبة
أنت لست اسماً
مكتوباً بالماء على أمواج المدّ والجزر
أنت حركة مكتوبة
في قلب المعرفة
إن قراءة ديوان (الذوبان) للشاعر إلياس دعبول تمثل متعة معرفية وشعرية، وفيها من الخصوصية الكثير، ولعلّ أهم ما فيها أنها تشبه روح الشاعر النقية القادرة على الحب والعطاء حرفاً وحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن