ثقافة وفن

أسطورة تموز وعشتار … «أقيمي المراثي أيتها المروج، أقيمي المناحة، أقيمي العزاء، ولتذرف عيناي الدموع على المروج»

ديالا غنطوس :

مع التغيرات المناخية التي مرت بها بلادنا في شهر أيلول والتي لم يسبق لي أن عايشت مثيلاً لها من قبل، تسلل الفضول إلى كلي لأعلم سبب الحزن الكبير الذي يسيطر على الطقس وانفعالاته، بتمرداته المتعددة وتقلباته العنيفة، لتقودني محركات البحث إلى أسطورة لفتت نظري بصدقِ حكايتها لهذا العام على وجه التحديد.

تقلّب الفصول – أسطورة تموز وعشتار
شكلت أسطورة (تموز – عشتار) أحد أهم الركائز الثقافية في حضارة بلاد الرافدين، ولعمق أحداثها التراجيدية كانت مصدر إلهام لحضارات العالم القديم، التي استنسختها واستحدثت أساطير مشابهة لها. قامت الأسطورة حول قصة حب كان بطلاها الإله دموزي «تموز» والإلهة عشتار «إنانا السومرية» آلهة الحب والجمال والخصب، وشهدت علاقتهما أحداثاً وانعطافات أدت إلى تشكل فصول السنة بما تأتي به من تقلبات وتحولات. بدأت القصة حينما وقع نظر الراعي تموز على عشتار التي اشتهرت بجمالها الباهر، وكان ضحاياها من الملوك الذين تأخذ منهم أعز ما يملكون قبل أن تتركهم باكينها ليل نهار، إلى أن رآها الراعي فسلبته لبه، فتوجه إلى أخيها «أتو» إله الشمس طالباً يدها، وقد أعجب أخوها بشخصية تموز، لكنها كانت تحب رجلاً آخر يعمل الفلاحة اسمه «أمدو» كانت ترى فيه من الخير والبركة ما يملأ المخازن بالحبوب، فأخبرت أخاها برفضها الزواج من الراعي تموز ذي الثياب الخشنة. جمعت المصادفة بين الراعي تموز والفلاح أمدو، فالتقيا على ضفاف أحد الأنهار ودار بينهما جدال محتدم، فما كان من أمدو إلا أن ساير مشاعر تموز تجاه عشتار وتقبلها فأصبح الرجلان صديقين، وبعد ذلك جمع لقاء ساخن بين عشتار وتموز تمكن خلاله من البوح بالمشاعر التي يفيض بها خافقه تجاهها وطلب منها قبول الخطوبة، لكن عشتار التي عُرف عنها اختلافها عن باقي النساء قررت ترك عالمها العلوي واختارت النزول إلى العالم السفلي، ولم توضح نصوص الأسطورة سبب اتخاذها ذاك القرار، لكنها كانت على علم بما ينتظرها في ذلك العالم الرهيب حين أمرت خادمها الأمين أن يذهب إلى معابد آلهة الهواء والقمر والحكمة ليطلب منهم حمايتها أثناء وجودها في العالم السفلي. اجتازت عشتار أبواب العالم السفلي السبعة وعند الباب الأخير كان لها موعد مع الموت فتحولت إلى جثة هامدة، وأثناء وجودها في العالم السفلي وموتها، ولكونها آلهة الخصب وتجديد الحياة، فقد أصابت الأرض كوارث خطيرة جراء موتها، فابتعد الذكر عن أنثاه، وتوقفت عجلة التكاثر، وهذا ما دفع خادمها للاستنجاد بالآلهة التي تمكنت من إعادة الحياة إلى عشتار بعد ثلاثة أيام من أسرها، لكن قضاة العالم السفلي وضعوا شرطاً لخروجها من عالمهم وهو تقديم شخص بديل منها، فوقع الاختيار على دموزي «تموز» ليكون ذلك البديل فسلمته عشتار للشياطين، حيث لم يُجد استنجاده بالإله «بعل» الذي مكّن الشياطين من أسره، فأخذ يقول تموز: «أقيمي المراثي أيتها المروج، أقيمي المناحة، أقيمي العزاء، ولتذرف عيناي الدموع على المروج».

عودة الحياة مع الإله تموز
عاد تموز إلى الحياة من جديد، جاء ذلك في العديد من الأساطير التي وردت في النصوص السومرية والبابلية، فقد تحدثت أسطورة الخلق البابلية عن قيام عشتار بتحرير تموز (الذي تتم الاستعاضة عنه بالإله مردوخ) من أسره بعد مضي أيام من البكاء والعويل والمراثي والحزن، حيث يخرج في النهاية منتصراً على قوى الشر والظلام. وجرت العادة على إحياء ذكرى هذه الأسطورة عبر طقوس كانت تقام كل عام، استحضاراً لرمزية الموت المؤقت لبعض الآلِهة، وللطبيعة التي تتوالى فصولها وتموت فيها الحياة كل شتاء من كل عام لكنها تبعث للحياة من جديد، كما هي الحال مع الإله تموز، ففي بابل كان الكهنة ينظمون المواكب كتقليد سنوي لإظهار الحزن على الإله تموز الذي أدى رحيله إلى العالم السفلي لحدوث الفوضى وحلول الخراب في الأرض من بعده، وهو تجسيد لنواح الآلهة عشتار عليه، وتستمر هذه الطقوس طيلة اثني عشر يوماً من كل عام، وفي اليوم السابع يخرج الناس إلى الشوارع لتقديم مشهد تمثيلي افتراضي لتشييع الإله تموز وانتقاله إلى السماء، فيعلو الصراخ بين حشود الناس الذين يمزقون ملابسهم ويزداد عويل النساء وبكاؤهن أثناء البحث في كل طرقات العاصمة بابل عن الإله مردوخ «تموز» الذي خانه الإله «بعل»، وينضم كهنة المعبد إلى الجماهير الغفيرة في هذا المأتم الشعبي الذي تعمه الفوضى ويغلب عليه الطابع المأساوي بعد أن تصل حال الناس إلى رمي التراب على رؤوسهم وتجريح وجوههم وأجسادهم بأظافرهم كتعبير عن حنقهم على الإله بعل ورغبتهم في الفتك به، وهم يصرخون بوجوب العثور على الماء السحري المقدس الذي سيرد الحياة إلى الإله تموز، وتنتهي هذه الطقوس في معبد مردوخ حيث تقام فيه تمثيلية قصة الخليقة التي تنتهي بتخليص تموز من الأسر في العالم السفلي.

إحياء الأسطورة عبر حضارات الشعوب
لم تفقد أسطورة عشتار- تموز زخمها مع مرور الزمن، وإنما استمرت في أشكال شتى حتى نهايات تاريخ الحضارات القديمة في أواخر الألف الأول قبل الميلاد، فقد انتقلت أسطورة الإله تموز عبر الكنعانيين والفينيقيين إلى اليونانيين القدماء الذين استوحوا منها أسطورتهم الخاصة التي تقول بقيام العالم الأسفل بخطف ابنة آلهة الأرض التي حزنت عليها أشد الحزن، وأدى ذلك إلى جفاف الأرض وقحطها وموت الزرع والثمار، فاشتكى الناس إلى آلهة جبل أوليمبوس التي حكمت على شياطين العالم الأسفل بإعادة تلك الابنة لمدة ستة أشهر في العام، تبدأ في فصل الربيع حيث تجلب معها الخضرة لأمها الأرض التي فرحت بعودة ابنتها إليها.
على الرغم من اندثار تلك الحضارات القديمة وتعاقب الحقب الزمنية إلا أن رمزية الإله تموز وأسطورة غيابه لنصف سنة في عالم الأموات الأسفل ومن ثم بعثه وقيامته، مازالت حاضرة نتلمسها في دورة الطبيعة وفي مزاجية فصول السنة وتقلبها، وحتى يومنا هذا يداوم الناس على الترحيب بقدوم الربيع والاحتفال بالطبيعة والابتهاج بخيراتها، في حين يعتري معظمنا حالة من الحزن والشعور بالفقد مع حلول فصل الخريف الذي يصطحبه شهر أيلول، أيلول الذي كان يُدعى (وَلْ) أي الولولة والنحيب على موت الإله تموز، وموت الزرع والخضرة بحلول الشتاء الممطر الباكي، ومن ثم عودتهما بعودته في الربيع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن