ثقافة وفن

العراضات الشعبية بين الفلكلور والحياة

| منير كيال

ارتبطت العراضة الشعبية بالأحداث التي يعيشها المجتمع وبالمناسبات الدينية والاجتماعية، كالاحتفال بالأعياد والمناسبات الوطنية والتصدي للاستعمار، وبالتالي استقبال الأحبّة، وذوي الوجاهة والسلطان، ووداعهم، فضلاً عن حفلات الأعراس وختم تلاوة القرآن الكريم والختان (الطهور) وذلك حتى مطلع القرن العشرين وفي مدينة دمشق على وجه الخصوص.
وقد كانت عواطف المشاركين بالعراضة تتفجر تعبيراً عن ذلك بالعراضة، ويبدو ذلك فيما يرددون بتلك العراضة من أهازيج، خلال مسيرة العراضة. والأهزوجة بالعراضة باللهجة العامية، وهي تردد وراء الهتّاف بالعراضة، وهو الذي تنقاد العراضة به، وتردّد ما يقول وفقاً للمناسبة التي تخرج من أصلها العراضة، ولهذه الأهازيج فعل السحر في إثارة عواطف المشاركين بالعراضة وتأجيج مشاعرهم، وبعث أو بث الحماس بالنفوس دونما تكلّف أو رصف كلام. فلا يكاد الهتّاف يبدأ مطلع الأهزوجة حتى كان المشاركون بالعراضة يتلقفون ما يقول الهتّاف ويأخذون بترديده وراءه بحماس بالغ.
ومن جهة أخرى، فإن الهتّاف بالعراضة غالباً ما يكون له موقع مميز بالعراضة وقد يحمل على الأكتاف، وهو يلوّح بيده أو بخيزرانة يمسك بها، في حالة انفعالية وعلى غاية من التمكن لما يقول. للدلالة على ما يجول بخاطره، وما يفيض به قوله، بالمناسبة التي كانت لها العراضة، حتى إنّ من الممكن القول إن أهازيج عراضاتنا الشعبية كانت بذلك الحين تنطق بما تعارف عليه الوجدان الجمعي من عادات وتقاليد، بل وأفكار ومواقف المجتمع، وما يخالج هذا المجتمع، حتى لكأن العراضة الشعبية، إنما هي عنوان لمواقف التاريخ الوطني والاجتماعي لهذا المجتمع، وبالتالي تقود الباحث إلى بيان ما حفل به التاريخ الذي صنعه عامة الناس، ما يجسّد أحاسيسهم وأفكارهم، وما يخالج عواطفهم ونفوسهم في التطلّع إليه من معاني البطولة والفداء ومعاني المحبّة والأثرة والوفاء والعواطف الرقيقة، وذلك بخاصة في مناسبات الأفراح، ومن جهة أخرى، فإن من الجدير بالقول: إن العراضة لم تكن في يوم من الأيام سبيلاً للارتزاق وكسب العيش بأسلوب التملّق والمحاباة. تلك العواطف التي كانت تسود العراضة لم تكن للبيع أو المساومة، لأن الوفاء لا يعادل مال الدنيا. إن الأحاسيس التي عاشها المجتمع بالعراضة في مطلع القرن العشرين كانت أحاسيس صادقة ووفيّة.
أيام زمان كان الناس لا يتعاطون أجراً إذا قاموا بالعراضة وهم يرددون وراء الهتّافين الأراجيز والأهازيج المتميزة التي تقول بها العراضة، وإنما كان ما يرددونه تعبيراً عن مكنونات مشاعرهم، بصوت واحد، وعلى وزن وإيقاع واحد، ووتيرة واحدة. كالسيل يتدفق من الأفواه.
فإذا تأملت وجوه أفراد جمهور العراضة، كنت ترى أن كل خلية من خلايا أجسامهم توثب ونبض بالتعبير عما يريدون، بل إن قسمات وجوههم ومخارج الحروف من أفواههم تكاد تتفجر حماسة.
ونذكر على سبيل المثال أهزوجة كان يرددها الشباب وهم يقارعون الاستعمار بالحجارة والخنجر والشّبرية مقابل شتى أنواع الأسلحة:
وإن هلهلتِ هللهنالك
صبّينا البارود قبالك
يا سورية نحن رجالك
وإن هلهلت يعربية
واحد منّا يقتل ميّة.
وما دام الأمر كذلك، فلا بدّ وأن يكون كاتب نص الأهزوجة التي تردّد بالعراضة مطبوعاً على التحسّس بأحاسيس الشعب، ويعيش الأحداث والمناسبات التي تعتلج الوجدان الشعبي، وبالتالي احتواء تفكير الناس ومواقفهم، بل ومثلهم وتطلّعاتهم.
لقد لعبت العراضة دوراً كبيراً في وجدان الناس في فترة مقارعة الاستعمار الفرنسي، بما كانت تشحن طاقات الناس وتفجرها في مواجهة أعتى الأسلحة وأفتكها، وأشدها ضراوة يوم كانت الحجارة والبندقية تواجه الدبابة والمدفع، والخنجر والعصا حيال الرصاص والقنابل، وليسقط من يسقط فداء لتراب الوطن وكرامته. ومن ذلك الأهزوجة التالية:
1- واسمع شو قال المذياع
عِفْيه يا كدعان الشام
عالحروب مجرّبة
2- خلّينا المستعمر يدور
من الغوطة لأرض الزور
هذا شغيلك شاغوري
هذا شغيلك ميداني
3- واسمع شو قال المذياع
يا فرج ولّف عالخيل
إجانا الخير بالليل
مدري شر، مدري خير
يا الله ضهورة يا الله الخيل
يا الله ضهورة يا نشاما
على هلك على هلك
وين الموت وين الهلك
أمي دلّتني عالموت
أختي دلّتني عالموت
وين الموت وين الهلك
فضلاً عن هذا، فكثيراً ما كانت مواكب العراضة تتحول إلى مقارعة القوى الاستعمارية، ومن ذلك موكب الاحتفال بعيد المولد النبوي فيكون التصدي لقوى الاحتلال.
وكان من عاداتهم التفاخر والتباهي ببطولة من سقط من الشهداء، فيعاهدونه على المضي والاستبسال بمقارعة المستعمر، فيقولون:
حاجة يا خراط حاجة تنادي
دبّحنا العسكر بأرض الوادي
دبّحنا العسكر والدنيا ظلام
حاجة يا خراط حاجة تقول
دبّحنا العسكر بأرض الشاغور
ومن المعروف أن الخراط هو المجاهد الشهيد حسن الخراط أحد أبناء حي الشاغور.
ومن جهة أخرى، فقد تتحول العراضة إلى مصادمة مع جنود الاحتلال فتعمل تلك الأهازيج على شد الهمم والتصميم على مواجهة تلك القوات. ومن ذلك مواكب تشييع الشهداء، وذلك مما يثير الحماس والإصرار على مواجهة الاحتلال، حتى لكأن العراضة وسيلة يستطيع الباحث أن يتعرّف من خلالها على جانب كبير من تاريخ البلاد باطلاعه على البطولات الشعبية التي قام بها رجال الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن