قضايا وآراء

ما من مغالاة في الحذر

| عبد المنعم علي عيسى

طافت سفينة الإنقاذ السورية على موانئ كان أولها في جنيف، وهي غيرها جنيف التي حطت بها مؤخراً، وفيينا ثم جالت على أستانا وسوتشي قبل أن تقرر أن تحط رحالها في جنيف مرة أخرى وإن كان حط الرحال مختلفاً كثيراً هذه المرة عن سابقته الأولى.
مجرد عودة مسار التسوية السياسية من جديد إلى جنيف له مدلولاته وكذا حمولاته التي ستكون ثقيلة الوطأة على ذلك المسار، وهو، أي فعل العودة، إذ يؤكد ثقل الأزمة السورية الدولي الذي لم يستطع فيه تيار وازن تمثل بمساري أستانا وسوتشي المتوازيين أن يحقق الغايات التي سعى جاهداً للوصول إليها وإن كان ثقل الحضور لا يزال طاغياً، فإنه يؤكد من ناحية أخرى أن الجغرافيا والديموغرافيا السوريتين هما بيضة القبان في التوازنات الإقليمية وكيفما رست هذي الأخيرة سيكون لها فعل حاكم على تلك التوازنات التي يسعى الجميع لرسم خط له فيها، أما في الحمولات فإن من المؤكد أن العودة إلى تحت سقف المظلة الأممية سيعني بالضرورة فعلاً ضاغطاً للقرارات الصادرة عنها دون أن يعني ذلك أن لهذي الأخيرة دور المطرقة التي ستحدد مسار المسمار، إلا أن فعل الضغط سيكون مدعاة لحدوث مناخات هي في مجملها سلبية أو بمعنى آخر غير مساعدة لوصول السفينة إلى بر الأمان في المهل المرجوة لها .
ما من مغالاة في الحذر يقول المثل الفرنسي، ومهما زاد حذرك فإنك بحاجة للمزيد منه، أما الأميركيون فيقولون إن عليك إن سمعت مديحاً أن تبادر إلى تحسس جيوبك التي ستكون بالتأكيد هدف الفعل، وعلى الرغم من أن المبعوث الحالي غير بيدرسون يبدو مدركاً أكثر من أسلافه الثلاثة السابقين لتعقيدات الأزمة السورية وكثرة تشعباتها، إلا أنه مدرك أيضاً لمحدودية الدور الذي يمكن أن يضطلع به، وإذا ما كان قد رفض دعوة ممثلي ضامني أستانا الثلاثة الأصليين والمراقبين، كما رفض دعوة ممثلي المجموعة المصغرة أيضاً إلى جلسة افتتاح أعمال اللجنة الدستورية، فإنه في الآن ذاته مدرك بالتأكيد أن تلك القوى تملك بين أيديها الكثير مما يجعلها حاضرة حيث للغياب هنا فعل الحضور عينه، والبعد عن حجز المقاعد في «الحفل» لا يعني بالضرورة غياب الأثر أو التلاشي وراء الستار، وفي لحظ تلك الحالة يمكن تعداد الكثير مما «تزنر» به العديدون قبيل جنيف، فرجب طيب أردوغان الذي أدرك استحالة نفاذ «الحلم» إلى فضاءات الواقع منذ قمة أنقرة منتصف أيلول الماضي سعى إلى استغلال الشقوق التي خلفها تفسخ ذلك الحلم، وفي هذا السياق يمكن النظر إلى الهدف المعلن من عملية «نبع السلام» والذي تحدد بـ«منطقه آمنة» بطول 120 كم تمتد ما بين رأس العين وتل أبيض على أنه محاولة تركية لتحطيم الجدار الذي رسمه القرار 2254 عندما ربط إعادة إعمار سورية بالتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة القائمة فيها، ولذا فإنه يهدف من وراء الاحتفاظ بـ«قضمة» جغرافية يضعها في جيبه إلى القول: إن تكسر الجدران هو فعل رهين فقط بمطرقته التي لن يكون بإمكان الجميع الاستغناء عنها، أما الأميركيون فهم ذهبوا في اتجاه هو النقيض تماماً لفعل أردوغان، وعندما أعلن الرئيس دونالد ترامب في مؤتمره الشهير عن مقتل زعيم داعش أبي بكر البغدادي يوم 27 من الشهر المنصرم بدا أن هذا الفعل الأخير هو أمر ثانوي تجاه فعل آخر كان طاغياً فهو ذكر النفط السوري لــ22 مرة في ذلك المؤتمر ثم ختم أن بلاده على استعداد لأن تخوض صراعاً عسكرياً إذا ما اقتضى الأمر في غضون سعيها نحو السيطرة على حقول النفط السورية.
يبدو أن القصة هي أبعد بكثير من جني مكاسب مادية من وراء ما ذهب إليه ترامب في السياق سابق الذكر دون أن يعني ذلك إلغاء تاماً لنوايا من هذا النوع، فالنفط السوري حقق في أفضل حالاته عتبة إنتاج تقف عند 350 ألف برميل في اليوم، أما عتبته التي يقف عندها اليوم فهي لا تتعدى حدود 80 ألف برميل في اليوم، وترامب يستطيع بتغريدة واحدة على توتير أن يجني أرباحاً «بدون وجع رأس» تفوق بعشرات الأضعاف المداخيل المتأتية عن الرقمين سابقي الذكر، ولذا نحن أمام احتمالين، إذا ما كانت نوايا المكاسب هي الأساس، الأول هو أن عمليات المسح الجيولوجي التي قام بها الأميركيون بالتأكيد خلال أربعة أعوام من تواجدهم في الشرق السوري قد أكدت وجود احتياطيات تتيح إنتاج أرقام هي بعشرات الأضعاف للأرقام السابقة، أو أن هناك احتمالاً أن تكون المنطقة غنية فعلاً بمادة السيليكون بالغة الأهمية في صناعة البرمجيات كما أشارت إلى ذلك تقارير متعددة المصادر وإن كانت كلها غير مؤكدة وتدور حولها، وحول طرحها، شكوك كبرى تدعمها غياب الحقائق، ولذا فإن الاحتمالين بعيدان والراجح هو أن هذا المسعى الأميركي لا يعدو أن يكون جولة في المشادة الأميركية التركية اقتضت الإبقاء على فعل جزئي للأكراد، وكذا المشادة الأميركية مع دمشق، وواشنطن عبر المشادتين سعت إلى الاحتفاظ بما يضمن تقييد الفعل التركي وكذا بما يضمن التأثير في ما تذهب دمشق إليه .
ما يعزز هذا التحليل السابق هو المآلات التي ذهبت إليها واشنطن في معاقبة أنقرة، فمجلس النواب الأميركي أقر يوم الأربعاء الماضي بأغلبية 403 أصوات في مقابل 16 عقوبات عليها وهي أغلبية ساحقة توحي بالكثير وترسم خطاً تصعيدياً لا يعرف مداه، صحيح أن ذلك الإقرار سيكون بحاجة إلى تصديق مجلس الشيوخ عليه إلا أن التراصفات داخل هذا الأخير تبدو ماضية أيضاً في نفس الاتجاه ولن تحيد عنه، إلا أن الأخطر منه هو تصويت المجلس نفسه وبنسبة أعلى حصدت موافقة 405 من أعضائه قبل يوم واحد على الاعتراف بالإبادة التركية للأرمن تلك التي حصلت في العام 1915، والخطورة تتأتى هنا من أن الحالة الأولى، أي فرض العقوبات، تستهدف عادة النظام القائم في البلدان المستهدفة بالدرجة الأولى بالرغم من أن شظاياها غالباً ما تطال الشعوب وتلك حالة تصب أيضاً في الحالة الأولى حيث لا ضير منها على اعتبار أنها قد تؤدي إلى حال من الاحتقان يمكن لها أن تطيح أو تحد من حركة الأنظمة المستهدفة، أما الحالة الثانية، أي الاعتراف بالإبادة، فهي تشكل الخطوة الأخطر في ما خطته واشنطن ضد أنقرة منذ أن انضمت هذي الأخيرة لحلف الناتو 1952 نظراً لأنها تستهدف كيان الدولة برمته والدور الذي يضطلع به دولياً وفي المحيط، ولسوف تكون له تداعياته الخطرة على الداخل التركي وتراصفاته.
تشير السياقات السابقة إلى حالة من الاستقطاب الإقليمي والدولي هي على درجة عالية من الحدة، ولربما ستشهد مراحل أخرى متقدمة بالتزامن مع كل اجتماع تعقده «اللجنة الدستورية» أو عند كل مفترق طرق يمكن أن تمضي إليه، ولم يكن من غير طبيعي أو البعيد عن التوقعات ما شهدته جلسات الحوار الأولى التي غلب عليها التشنج والتشاد قياساً إلى التضارب الواضح بين ما تحويه الحقائب التي يحملها الأفرقاء المجتمعون ثم أن فعل التلاقي حديث العهد وهو يحدث للمرة الأولى وذاك لوحده له أثر تنافري قد يدوم لوقت غير قصير.
في بدايات الأزمة السورية قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: إن هذي الأخيرة ستلد من رحمها نظاماً دولياً جديداً، ثم تبعته آراء عديدة قارئة لمسار الأحداث ترجح صدقية تلك النبوءة، ولربما كانت هناك اليوم الكثير من المؤشرات التي ترجح إمكان أن تصبح تلك الأزمة «القابلة» التي سيلد على يديها ذلك النظام، لكن الخشية هنا أن تصبح الجغرافيا السورية «برلين» الحرب الباردة وفيها جداره الذي نعيش اليوم في مناخات الذكرى الثلاثين لانهيار طبعته الألمانية في العام 1989 .

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن