قضايا وآراء

أطماع العثمانية الجديدة ستتكسر على حدود سورية

| د. قحطان السيوفي

لا يختلف اثنان على أن السلطان العثماني الجديد رجب طيب أردوغان يدغدغ أحلام بعض الأتراك لإعادة إحياء تاريخ استعماري عثماني قديم، وفي هذا السياق يأتي العدوان التركي على الشمال السوري من استيلاء على الأرض وطرد أهلها ومحاولة تغيير وضعها الديموغرافي، هذه الأحلام والأطماع العثمانية تواجه رفضاً دولياً، وستتكسر على حدود سورية.
يبدو أن أردوغان لم ينس ظروف انهيار الإمبراطورية العثمانية، وربما يسعى لمحاسبة من يعتبرهم «مسؤولين» عن هذا الانهيار من العرب، ويبقى حلم العثمانية والثأر من أولويات أردوغان لجعل الجمهورية التركية، امتداداً للإمبراطورية العثمانية، وفي ذهنه مشروع استعماري سياسي أوسع عبر عنه في الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاة السلطان عبد الحميد الثاني الذي أقيم منذ شهرين في إسطنبول إذ قال إن «هناك من يعمل على محو الماضي، وعلى أن يبدأ تاريخ تركيا سنة 1923 (إعلان أتاتورك للجمهورية)، وهناك من يبذل جهده لانتزاعنا من جذورنا وقيمنا العميقة».
لوحة أردوغان باللعب على حبال الابتزاز مليئة بالشعارات؛ منها شعاراته العثمانية المُتبنية لمشروع الإخوان المسلمين، وشعار محاربة الإرهاب الكردي وأيضاً محاربة النظام السوري لإسقاطه، شن أردوغان عدوانه على سورية واستخدم ما تبقى من مرتزقة فيما يسمى «الجيش السوري الحر» في هذه المعركة.
لاشك أن أردوغان يعاكس الشعار الذي رفعه رئيس حكومة تركيا السابق المنشق أحمد داود أوغلو «صفر مشكلات مع الجيران».
الواقعية التاريخية تقودنا إلى أن العثمانيين جاؤوا للوطن العربي برائحة الموت، محاولين تدجين العرب وإرهابهم، وجعلهم قطيعاً تابعاً.
محاولات رجب طيب أردوغان لإحياء التراث العثماني الظالم، تذكرنا بإرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون بحق أبناء المنطقة العربية.
حيث لقي العالم العربي منهم كل عسف وظلم، ولم يتركوا وراءهم سوى الآلام والأوجاع، والتخلف الثقافي والمعرفي.
الذاكرة العربية لن تنسى مطلقاً أحكام إعدام مناضلين عرب معارضين للحكم العثماني في دمشق وبيروت في أيار 1916.
سياسات أردوغان تسعى إلى استعادة هذا التراث من الجزيرة العربية إلى مصر، وصولاً إلى سورية وكل بلاد الشام والانقضاض على الأسس الثقافية والاجتماعية التي بنى عليها كمال أتاتورك دولة تركيا الحديثة.
بالعودة إلى المصادر الأصيلة التي تحدثت عن ظروف الحكم العثماني للمنطقة العربية، مثلاً كتاب محمد بن إياس الذي توفي عام 1523م «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، المُعاصر لأحداث دخول سليم الأول لمصر، أعطى الصورة الحقيقية لهذا السلطان المستبد، وتحدث ابن إياس عن المآسي التي مر بها المصريون في أثناء دخوله مصر، من قتلِ الشيوخ والأطفال، وسبي النساء، وارتكاب أفظع الجرائم، وقد تحدث أيضاً عن سليم الأول، وإسقاطه دولة المماليك، وسعى لتدمير البنية الاقتصادية المصرية، واقتاد أصحاب الصناعة والحرفيين إلى إسطنبول، وكذلك ابنه سليمان القانوني الذي جاء إلى دمشق، ودخلها دخول الحاقدين، كما ذكر ابن طولون في كتاباته المعاصرة للحدث، حيث كان القتل والتدمير واستباحة أهالي الشام، واقتياد كثيرين منهم عبيداً إلى إسطنبول.
العثمانيون ومرتزقتهم قاموا بمحاولات تتريك العرب، وطمس هويتهم العربية، حتى إنهم أوغلوا في ذلك حين فرضوا تدريس قواعد اللغة العربية بالتركية.
بالمقابل يعيش أردوغان جو التراجع والإذعان؛ حين أعلنت واشنطن عن زيارة وفد رفيع المستوى، من نائب الرئيس الأميركي مايك بنس ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى تركيا، كان السلطان العثماني يعلن وبحسم أنه لن يستقبلهما في أنقرة، غير أن موقف أردوغان تغير في أقل من أربع وعشرين ساعة.
فُتحت أبواب القصر، والتقى أردوغان صاغراً بنس وبومبيو، وشهد العالم على الشاشات وجوها متجهمة، قبل التوصل إلى قرار وقف العمليات العسكرية، وتهيئة الأجواء لانسحاب القوات الكردية.
هل حقق أردوغان أحلامه وأوهامه، أم أن إرادته الواهمة وأطماعه ستتكسر وعبر إذعان دولي غير مسبوق؟
تبدو قضية اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان تحصيل حاصل، لكن ما هو أخطر على أردوغان، ما آلت إليه رئاسته في عيون الشارع التركي، ولاسيما أن الجميع اكتشف أن تركيا أضحت ضد العالم كله.
لن تتوقف الاستحقاقات والتبعات السلبية للعملية العسكرية الأخيرة في شمال سورية عند حدود العمل العسكري؛ بل ستمتد إلى كثير من مناحي الحياة في الداخل التركي المأزوم بارتفاع الأسعار وشيوع الفقر، وارتفاع معدلات البطالة.
قبل بضعة أيام تحدث رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض كمال كيليتشدار أوغلو، في البرلمان التركي، متسائلاً: «ما شأن تركيا بالشرق الأوسط حتى نتدخل في شؤونه؟ وأي منطق ذاك الذي حول دولاً عربية وإسلامية كنا نرتبط معها بروابط تاريخية وثقافية، وإنسانية، إلى أعداء لنا»؟
تركيا أردوغان أضحت لعبة لدى القوة الإمبريالية، وتهان بأشد الإهانات، وسلطانها يعاني من جنون العظمة وأحلام اليقظة.
تركيا، ومنذ سنوات، باتت مرتع الحركات الإخوانية والداعشية، وأردوغان عراب هذه التيارات وسلطانها حيث يعمل على رعايتها وتمويلها وتوظيفها، في سياق تحقيق طموحاتها لتكريس نزعاته العثمانية الجديدة، وفرض الأخونة على العالمين العربي والإسلامي.
من هنا، فإن أحد أهم أهداف العدوان التركي على شمال شرقي سورية، هو إقامة جيب إرهابي، يكون ممراً ومستقراً للحركات المتطرفة، وأشبه بدويلة تمثل بؤرة للعنف، وقاعدة للتنظيمات الإرهابية التكفيرية ضد مختلف دول المنطقة.
أردوغان يتوهم أن هذا المشروع الخطير سيساهم في تنفيذ سياساته التوسعية والعدوانية في خرق فاضح لمبادئ القانون الدولي وسيادة الدول، ومن ثم توطين وإسكان مئات آلاف من الإرهابيين.
والواقع أن أردوغان يعلن صراحة، في هذا السياق، إحداث تتريك وتغيير ديموغرافي واسع في المناطق الشمالية من سورية التي يغزوها، لنشر الفاشية الأردوغانية القائمة على الأحادية والكراهية والاستعلاء، ويرتكب جرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقي فيها وبما يهدد الأمن والسلم الدوليين.
اليوم تدخل العلاقات التركية الأميركية فصلاً جديداً من التوتر على خلفية إقرار مجلس النواب الأميركي مشروعي قرارين يتعلق أحدهما بالاعتراف بإبادة الأرمن في 1915. والآخر بالعملية العسكرية التركية في شمال شرقي سورية.
قرارا مجلس النواب الأميركي، يحملان رسائل لتركيا أردوغان، بأن أخطاء الحاضر، استدعت فتح دفاتر الماضي، وتحميله مع البقية الباقية، بتكاليف الجرائم التي ارتكبها الأسلاف السلاطين وصولاً إلى أردوغان.
المشهد التركي يُثير تساؤلاً: هل هي بداية النهاية لأردوغان، بعد أن بدا واضحاً دخوله عصر التراجع والإذعان للقوى الدولية.
أخيراً نؤكد أن سورية شعباً ودولة ترفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال التفاهمات الأميركية التركية التي تشكل اعتداء صارخاً على سيادة ووحدة سورية أرضاً وشعباً وانتهاكاً فاضحاً لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بالذرائع التي يسوقها نظام أردوغان في عدوانه على سورية والذي شكل ولايزال القاعدة الأساسية لدعم التنظيمات الإرهابية وأن سورية ستستخدم حقها المشروع وبكل الوسائل، حسب شرعة الأمم المتحدة، لدحر الاحتلال العثماني واستعادة الأراضي السورية المُحتلة. إن أطماع وأحلام العثمانية الجديدة ستتكسر على حدود سورية الشمالية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن