قضايا وآراء

لبنان بين الظاهر والمضمون

| رفعت إبراهيم البدوي

دخلت الانتفاضة الشعبية في لبنان أسبوعها الثالث فيما الارتباك لم يزل مسيطراً على المستوى الرسمي منذ بداية الانتفاضة الشعبية واحتشاد الجموع الغاضبة في الساحات استنكاراً لقرارات الحكومة الجائرة بفرض ضرائب مالية غير مبررة على المواطنين ناهيك عن استشراء الفساد في مختلف الإدارات الحكومية والوزارات وصولاً إلى نهب منظم لخزينة وأملاك الدولة وصل إلى حد الفجور جراء إبرام صفقات وتلزيم مشاريع مشبوهة تعود بالفائدة على زمرة من الفاسدين المحميين من مراجع سياسية داخلية وإقليمية أمعنوا بسرقة المال العام بالشراكة مع طبقة سياسية عفنه تتلطى بالطائفية، حكمت لبنان وتقاسمت خيراته لأكثر من أربعة عقود من دون أي محاسبة.
الجماهير المحتشدة في الساحات طالبت بإسقاط الحكومة الفاسدة وإسقاط نظام المحاصصة الطائفية في لبنان وإقرار قانون جديد للانتخابات النيابية قائم على أساس النسبية الكاملة خارج القيد الطائفي واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة ثم الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة تضمن التمثيل الوطني الصحيح وليس التمثيل الطائفي أو المذهبي والانطلاق نحو محاسبة الفاسدين والبدء بعملية استرداد الأموال المنهوبة.
لكن لبنان الرسمي وعلى مدى أسبوعين ظهر بمظهر العاجز وكأنه بلد من دون حكومة وبلا وزراء ولا مسؤولين مكلفين إدارة شؤون المواطنين خصوصاً مع غياب الجميع عن السمع.
ما حصل بلبنان وصف بالزلزال السياسي الذي طال معظم الطبقة السياسية والحزبية فيه ورغم ذلك لوحظ عدم اكتراث الأحزاب السياسية لمطالب الناس المحتشدة ولم توجه الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الوزراء من أجل البحث عن حلول ومخارج تنقذ لبنان من حرب أهلية مدمرة لامست الساحات والشوارع المحتشدة وحتى البيوت.
واهم من يعتقد أن المطالب المحقة تحظى بتأييد أي من الطبقة السياسية بلبنان لأن تحقيق مطالب الشعب تعني الإطاحة بالطبقة السياسية الحاكمة بأحزابها وشوارعها الطائفية والمذهبية.
هجوم الأحزاب والتيارات السياسية على تبني مطالب الجماهير المحقة جاء ظاهرياً للحصول على صك براءة من الفساد الحاصل والذي أودى بلبنان إلى حافة الانهيار لكن المضمون الحقيقي لتبني الأحزاب والتيارات مطالب الجماهير حمل في طياته هدفين لا ثالث لهما الأول هو احتواء مطالب الجماهير المحتشدة والتخفيف من الضرر الذي أصاب الأحزاب والتيارات السياسية أما الهدف الثاني فهو حماية الزعيم الطائفي من المحاسبة.
وعلى الرغم من مراهنة البعض على عدم إقدام الرئيس سعد الحريري على الاستقالة مستندين إلى توازنات حزبية سياسية داخل الحكومة إضافة إلى متانة التزام الحريري بالتسوية الرئاسية بيد أن كل الرهانات والتأكيدات تبخرت فجأة يوم أعلن الرئيس الحريري عن استقالة الحكومة معللاً قرار الاستقالة بأنه استجابة لضغط الانتفاضة الشعبية من جهة معطوفاً على تعنت شريكه الأساسي الوزير جبران باسيل من جهة أخرى ومما قاله الرئيس الحريري للوسطاء الذين زاروه أنا لم أعد احتمل فإما تعديل حكومي يخرج جبران باسيل وممثلي الأحزاب من الحكومة وإما الاستقالة.
وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لثنيه عن الاستقالة إلا أن الرئيس الحريري لحق بحزب القوات اللبنانية وأعلن استقالة الحكومة الأمر الذي اعتبر بمثابة لكمة موجعة مثلثة الأضلاع من حزب القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل بوجه حزب اللـه والتيار الوطني والأحزاب الحليفة وذلك بهدف إسقاط التسوية الرئاسية أولاً ومحاولة إرباك حزب الله.
مما لا شك فيه أن صورة الرئيس الحريري مجتمعاً مع وليد جنبلاط وسمير جعجع عقب تقديم كتاب الاستقالة إلى رئيس الجمهورية أعطى انطباعاً بأن محوراً قديماً تم تجديده بوجه الرئيس عون وحزب اللـه تحديداً وخصوصاً إذا ما أخذنا بالحسبان توقيت إعلان الاستقالة بعد يومين من إعلان أمين عام حزب الله حسن نصر اللـه عن معارضته إسقاط الحكومة ولا ننسى بأن الاستقالة جاءت في ظل ظروف إقليمية حساسة استطاع محور المقاومة وحزب اللـه تسجيل انتصارات متتالية لكونه جزء مهم من محور المقاومة الممتد من إيران والعراق وسورية ولبنان وفلسطين امتداداً إلى اليمن وهذا ما يقلق المحور الأميركي والإسرائيلي والخليجي الذين يدفع باتجاه إثارة الفوضى بلبنان لتجريد حزب اللـه من انتصاراته في داخل بيئته.
ومن دون الغرق بتفاصيل إقليمية وربط تزامن أحداث الانتفاضة الشعبية بين العراق ولبنان فإن الأمر يقودنا إلى أن الانتفاضات هي بالجوهر مطالب شعبية محقة لكن المضمون هو مشروع أميركي صهيوني استطاع التغلغل بين المنتفضين ما سهل له إدارة الانتفاضة عبر تغطية إعلامية مدفوعة الأجر هادفة لتحويل الانتفاضة عن المطالب المعيشية المحقة للتشكيك بمصداقية المقاومة في محاربة الفساد وتصوير حزب اللـه وكأنه شريك أساسي بتغطية الفساد في لبنان وأيضاً لضرب ثقة البيئة الحاضنة للمقاومة.
الرئيس الحريري يعتقد أن استقالته أمنت له مخرجاً لائقاً من الأزمة من دون خدوش لكن لا يغيب عن أذهاننا أن الرئيس الحريري نفسه كان رئيساً لحكومة فاسدة بالتكافل والتضامن مع الأحزاب والتيارات السياسية المشاركة بالحكومة وبناء عليه فإن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الرئيس الحريري والقوات اللبنانية والحزب التقدمي وكل الأحزاب الذين أيدوا ممارسة سياسة المحاصصة الطائفية منذ الثمانينيات والتسعينيات حتى يومنا هذا ومهما حاولوا ركوب موجة المطالب الشعبية فلا بد من محاسبتهم جميعاً وذلك نتيجة وصول لبنان إلى هذا الدرك من الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
الواضح أن كلام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لمحطة الـ«سي إن إن» شكل إشارة واضحة بأن انهيار لبنان اقتصادياً بات على الأبواب والكل يعلم أن الإشارة للانهيار كانت أميركية بامتياز.
قرار الرئيس الحريري بالاستقالة استنفر الشارع المؤيد له ما أفسح المجال للرئيس الحريري استرداد جزء كبير من قاعدته الشعبية الرافضة أصلاً للتسوية الرئاسية خصوصاً بعدما ألقى باللائمة على تعنت الوزير جبران باسيل.
استقالة الحريري لم تأت من فراغ بل إنها جاءت تلبية لأوامر خارجية كرد مباشر على نصر اللـه حين أعلن معارضته إسقاط الحكومة وهذا ما دفع الشارع المؤيد للحريري إلى الاحتشاد مجدداً تأييداً له كورقة ضاغطة لإعادة تكليفه تشكيل حكومة جديدة لكن بشروط الحريري نفسه أي حكومة تكنوقراط من دون مشاركة ممثلين عن الأحزاب والتيارات السياسية وفي مقدمهم حزب اللـه لكن فات الرئيس الحريري أن استبعاد الأحزاب والتيارات يشمل تياره السياسي أيضاً فإذاً كيف لتيار المستقبل أن يتمثل برئاسة الحكومة منفرداً دون باقي التيارات السياسية؟
إن أي حكومة وكيفما كان شكلها وشخصية رئيسها لا بد لها من الحصول على ثقة كتل الأحزاب والتيارات المتمثلة في مجلس النواب إضافة إلى توقيع رئيس الجمهورية حتى تصبح حكومة شرعية ونافذة.
الملاحظ أن سلطة الأحزاب والتيارات المتمترسة خلف طوائفها ومذاهبها استطاعت تحويل زخم حشود الساحات المطالبة بإسقاط نظام المحاصصة الطائفية إلى ساحات حزبية طائفية مقابلة وصار كل حزب أو تيار يستعرض جماهيره المؤيدة بالساحات لإبراز قوته الشعبية هذا في الظاهر، أما الحقيقة المرة فهي عملية إجهاض لمطالب الناس المحقة وللقول إنه لا يمكن للحشود تغيير نظام لبنان الطائفي ولو أودى بلبنان إلى التهلكة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن