أعترف أني لست من هواة الشعر لا كتابةً ولا حفظاً ولا حتى قراءة، لكنّ هناكَ استثناءين فقط يَجعلاني بينَ الفينة والأخرى أدخل بيوتَ الشعر من أَبوابها لأغوصَ في بحورها عساني أحظى بما يسدّ رمقي من غذاء الروح، نزار قباني في العصر الحديث، والحسن بن هانئ الشاعر العبّاسي المكنّى بأبي نواس.
ربما نكاد نجزم بأن أبا نواس هو من أكثر الشخصيات الأدبية تَعرّضاً للتضليل الإعلامي في تاريخنا القديم والحديث، ولو كان له أحفاد يعيشونَ حتى يومنا هذا لكسبوا الملايين من خلال رفعهم قضايا تشهيرٍ بحقّ جدّهم من دون اللجوء حتى إلى قانون الجريمة الإلكترونية، ففي مصادر «أبو لهب الجاهلي» يعرّفونه بشاعر «اللهو والمجون»، وعندَ أولئك الذين يظنونَ أن اللـه لم يهد سواهم هو شاعر «الزندقة والفسق»، حتى كنيته «نواس» هناك من ربطَها بتشبهه بالنساء والشذوذ الجنسي لوجود ضفيرتين في شعره.
مما لاشكَّ فيه أن أبا نواس دفعَ ثمنَ عبقريته اتهامات وأكاذيب طالته، تحديداً بعدَ ما كان يروى عن العلاقة العاصفة التي كانت قائمة بينه وبين الأمير العباسي هارون الرشيد، فهذا الأخير كان يستجمع كلّ قواه الأدبية وترسانته من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية في ذاك الوقت لإحراج أبي نواس لكنه كان يفشل.
هذه الاتهامات لم تنعكس فقط على صورة الرجل في ذهن القرَّاء والدارسين لكنها للأسف أغفَلت عبقريةَ هذا الرجل وحولته إلى إنسانٍ غير سوي، لكنك في الحقيقة ستكتشف بتمعنٍ بسيط عند قراءتكَ لشعره أنك أمام شخصٍ منبوذ لأنه عبقري، مهمَّش لأنه يقول الحقائق، ومهما قرأتَ له من أشعارٍ وأياً كانت درجةَ محبتكَ للشعر، وأياً كان الزمن الذي تعيش فيه ستقف ملياً عند البيتيين الأشهر له، ولعلّ كثر في هذه الأيام ينقلونَ هذه الأبيات ولا يعرفون أنها لأبي نواس حيث يقول في مدح الخمرة، وتحديداً لمن يطلبونَ منه التوقفَ عنها:
دعْ عنكَ لَومي فإن اللومَ إغراء وداوني بالتي كانَت هي الداء
حتى يصل في القصيدة ليقول:
وقل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً حفظت شيئاً وغابَت عنك أشياء
لن ندققَ كثيراً بالمغالطة التاريخية المتعلقة بمثل هذا النوع من الشعر، أي السؤال عن أي نوعٍ من «الخمرة» يتحدث أبو نواس، هل هي ذاتها خمرة ابن الفارض الصوفية؟
بذات الوقت فإن إيضاحَ فرضية أن الإنسان بحاجةٍ دائمة للمعرفة لأن ما من بشري وصلَ في العلم مرحلة الكمال ليس الهدف الأول لهذين البيتين، فهناك هدفٌ أعمق يتجسد ببساطة باستخدام الشاعر كلمة «حفظت» وليسَ «فهمت»!
فرقٌ كبير في هذه الحياة بينَ أن تحفظ وأن تفهم، بين أن تتحول لببغاءٍ يكرر عباراتٍ وجمل وأحاديث وأقوال وبين أن تفهم بالتحليل والاستيعاب هذه الأحاديث وتوظفها في مكانها المناسب.
الحفظ لا يجعل منكَ إنساناً متقدّماً في هذه الحياة، وحده الفهم يتجسَّد بإمكانية تشبيك مخزونك المعرفي والثقافي، لتتحول من صاحب عقلٍ متجمد ومكبَّل بما يحفظ إلى صاحب عقلٍ منفتح بما يريد أن يفهم.
في الخلاصة: أحبّ أبا نواس وأعشق عمقه وتمرده، تحديداً عندما يكون هذا العمق أو هذا التمرد مبنياً عن معرفة لا عن ادعاءات لتبدو هذه المقاربات «النواسية» صالحة لكلّ مكانٍ وزمان، فكم من استخدامٍ سيئ لمصطلحاتٍ تبدو رنانة لكنها في الحقيقة مسيئة في مضمونها كفعل حَفظ، يَحفظ، تحفيظاً، وكم من مدعي حفظٍ ظنَّ نفسه مدعي علمٍ ومعرفةٍ ومفهومية لا بل.. أبو المفهومية.