ثقافة وفن

«سحر اللغة والبيان» ومشاهد من تذوق الشعر

| جُمان بركات

الفصح عن دقيق المعنى للنصوص هو الأثر الكبير في الإعراب الصحيح السديد.
ثمة مسافات شاسعة بيننا وبين كنوز من النصوص الساحرة في المشاهد واللغة والبيان، يحاول كتيب «سحر اللغة والبيان» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب لمؤلفه د. محمد عطا موعد ربط القارئ بأبعاضها، لعل هذا يكون دافعاً للنظر في مزيد منها. وهي تعبر عن بعض رؤى الإنسان في الكون والحياة، رؤى مفعمة بطيب الحس، ولذيذ الشعور وعميقة، ولعل التأمل والتدبر فيها يمنح الروح والنفس فيضاً من ساحر النشوة التي تنقل المرء وتسمو إلى عالم النقاء والصفاء، عالم لعلنا نكون أحوج إليه، وقد تبلّد منا الحس في عالم المادة حيث يقبع التراحم في قصيّ الأركان.

نصوص بلا تذوق
وهذه المشاهد الندية من عذب شعرنا الجميل –حديثه قبل قديمه- تغدو في أيدي الطلبة لدى إعراب النصوص جامدة باهتة باردة، فالطالب الجيد في الأعم الأغلب قد يلمح معنى هذا البيت أو ذاك، وتكون غايته منصبة على إعراب النص دون تذوقه والوقوف على ما فيه من سحر اللغة والبيان، ولعل هذا العمل المتواضع يحثه على ذلك. يتبدى كثير من النصوص لطلابنا وللناس، وكأنه جاء من سحيق الزمن، فهو لا يصلح لعصرنا ولا يمكن للناس أن يتفاعلوا معه إذ كان في ماض غبر وانتهى.
وما ذاك إلا لأنهم لم يدرجوا على إمعان النظر في نصوص الشعر، وفهمها الفهم السليم القويم، فإن طلبت من أحدهم أن يشرح بيتاً أو قطعة من نص تراه لا يقوى على ذلك، وربما تراه في أحسن الحالات يعبر عن فهمه بلغة عامية، وقد يشوبها بعض الفصحى. وحقيقة الأمر أن شعرنا العربي مفعم بعذب النصوص، ولكن طلابنا لا يعرفون عنها سوى النزر، وصعبها مما يطرق مسامعهم لأول وهلة هو غاية في الجمال أن أخذ بأيديهم إليها.

تجربة
عندما ذكر المؤلف مرة بعض أبيات من قافية «تأبط شراً» سردها أمام الطلاب فرأى في عيونهم الغرابة، فقال: هل فهمتم شيئاً منها، قالوا: لا، فقال مداعباً لهم ولا أنا.
يا عيد ما لك من شوق وإبراق ومر طيف على الأهوال طرّاق
يسري على الأين والحيات محتفياً نفسي فداؤك من سار على ساق
في البداية لا يمكن فهم شيء من هذه الأبيات، إلا بعد ربطها بحياة الشاعر، فمثلاً المقصود من القول: يا عيد؟ أن الشاعر يريد بالعيد ما يعتاد المرء من طيف خيال المحبوبة، و«تأبط شراً» كان معروفاً بسرعة العدو، وأنه في جل حالاته حافي القدمين، ويتخيل طيف محبوبته وتأتيه حافية القدمين أيضاً، وبذلك يصبح النص العويص فاتحاً ذراعيه للطلاب مع مطالبتهم بمعرفة المزيد عن هذا الشعر والشاعر.

الجُمانة
في محاولة لتلمس أنداء السحر وأوهاج البيان في أربعة أعلاق من روائع الشعر يبدأها د. محمد موعد بقصة الجمانة البحرية في شعر المسيّب بن علس بهذا المشهد:
أَصَرَمتَ حَبلَ الوَصلِ مِن فِترِ وَهَجَرتَها وَلَجَجتَ في الهَجرِ
وَسَمِـــــعتَ حَلفَتَها الَّتي حَلَفَت أن كانَ سَمـعُكَ غَيرَ ذي وَقرِ
نَظَـــرَت إِلَيكَ بِعَيـــنِ جازِئَــةٍ في ظِلِّ بارِدَةٍ مِنَ الــــــــسِدرِ
يشرع الشاعر العاشق بهذا السؤال: أقطعت حبل الوصل من المحبوبة وهجرتها؟ وليته يقف عند هذا، فهو قد هجرها، ولجّ في الهجر، فهو إذن فيض في الهجر، وهذا الفيض له وقع كبير في النفس.
في هذا الأبيات جعلنا المسيّب العيش لحظات الحب والصراع والخوف والقلق والتضحية، وهذه هي الغاية من سوق هذه القصة الساحرة وليست الغاية أن يتحول هذا الفن البديع إلى كلام بارد باهت يتداوله الطلبة في الإعراب، فالنص أبدعه المسيب كي نحيا معه فنشاركه حسه ورؤيته، فإن شاركناه نشوته ووصلنا إلى ألقه وسحره أمكن حينئذ الوقوف بكل سهولة على ما في النص من مفردات وجمل يعوزها الإعراب والوقوف على إعرابها إذ ذاك سيكون يسيراً جداً، وسيغدو الإعراب جسراً يصل به الطالب إلى المعنى ومعلوم أن المعنى هو درب له، فعراهما لا تنفصل.

قوس الشّمّاخ
ومن سحر اللغة أيضاً ما يراه المرء في قصة قوس الشّمّاخ:
فحلّأها عن ذي الأراكة عامر أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحز
يسحرنا الشمّاخ في مشهده الذي لا يكتمل من دون ضمه إلى جمانة المسيب، فغوّاص المسيب أطاق الاحتفاظ بالدرة على عوزه الشديد له، فكان أن حازت جمانته تقدير الصواري، فخرّوا لها سجداً، وأما قواس الشماخ فلم يصمد أمام إغراء «البيع» في استعراض المال والذهب والثوب النفيس.

البقرة الوحشية
ولعل إصرار الكاتب على عالم البشر النقي الصافي، بما فيه من مشاعر سامية جعله ينقلنا إلى واحد من المشاهد الندية في الشعر الجاهلي: حديث الأعشى الساحر عن قصة البقرة الوحشية.
وبلدة يرهب الجواب دلجتها حتى تراه عليها يبتغي الشيعا
لا يسمع المرء فيها ما يؤنسه بالليل إلا نئيم البوم والضوعا
يشرع الأعشى قصته الحلوة بهذا الوصف لتلك البلدة التي يفزع الجواب من ليلها البهيم، والبقرة الوحشية ترصّدها وحش يخفي نفسه عنها، ثم ينقلنا إلى المرعى الخصب الذي يغريها بما فيه من طعام طري شهي، ولله در الأعشى على ما ساق من سحر اللغة في هذا المشهد الإنساني، والعيش في سحر التعبير مع فيض الشعور والحس ثم يجسد كل ما انتهت إليه فاجعتها: غفلة اعترتها من شهوات الدنيا.
الشعر الحديث
ويختم موعد بنص من نصوص التفعيلة لمحمود درويش كي لا يبقى قارئ الشعر العربي بين قديم النصوص وحدها، وذلك أن الشعر الحديث مفعم بسحر اللغة والبيان، فهذا السحر ليس حكراً على القديم وحده، ولا على الحديث وحده، فسحر التعبير والبيان ليس له صلة بتلك المعركة المتوهمة بين الشعر القديم والحديث.
والقصيدة التي ساق إليها من ديوان «أعراس» وهو العرس الذي كان في مخيم في شمالي لبنان، وجاءت الطائرات الصهيونية لتحيل العرس إلى مأتم.
في النهاية إن تذوق النص والتلقي من فيضه وسحره والوقوف على أسراره وخباياه سيكون له كبير الأثر في إعرابه الإعراب الصحيح السديد، لأن فهم النص وتذوقه سيزيد في بيان الإعراب، وإنه لمن الفضول القول: إن الإعراب يعني الإبانة والإفصاح، فكلما تم الفصح عن دقيق المعنى، كان لهذا أثره البيّن في الإعراب وكان هذا هو مفرق الطريق بين النصاعة واللّبس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن