ثقافة وفن

حسن. م. يوسف يرسم حياة فاتح المدرس بالكلمات … لم يتوقف عن الرسم إلا قبل شهر واحد من رحيله ودفن بناء على وصيته إلى جانب نزار قباني

| وائل العدس

في الجزء السادس والأربعين من سلسلة «أعلام ومبدعون» الشهرية الموجهة لليافعة، أصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب – مديرية منشورات الطفل كتاباً يسلط الضوء على حياة الفنان التشكيلي فاتح المدرس من تأليف الكاتب حسن م يوسف مؤلفاً من 59 صفحة من القطع الصغير.
ووفقاً للكاتب الشهير فإن فاتح المدرس لم يكن رساماً موهوباً وحسب، بل كان مبدعاً شمولياً، يرتجل العزف على البيانو ويكتب الشعر والقصة، فهو يعزف مثلما يرسم، ويطبخ كما لو أنه يصنع لوحة.

ويرى المدرس أن العمل الفني من أعسر المهمات التي أخذها الناس على عاتقه، وهو يمضي قدماً على سلم الحضارة المرتفع، وإن هذه المهمة، مهمة تغيير شكل العالم دفعت الفنان والعالم أن يعملا معاً.
واستعرض الكاتب مراحل حياة المدرس وسنيه السبع والسبعين التي عاشها وأحرز من خلالها شهرة واسعة واحتل مكانة عالية في تاريخ الفن التشكيلي السوري والعربي، إذ لم يسبق أن أحرز مثيلاً لها فنان في هذا المجال، إذ نجح في إبداع لوحة خاصة به تشكل امتداداً لشخصيته الفذة المغامرة، فلوحته تقتحم ذاكرة المشاهد وتحرره من عادات الرؤية التقليدية، كما تطلق أشواقه الخبيئة وتحفزه كي يراها ويرى العالم بشكل مختلف، ولهذا قال عنه الأديب السوري أدونيس: «إن إبداع فاتح المدرس في تاريخ الحركة التشكيلية السورية، يمثل معيارية كلاسيكية عالية، يؤرخ بها، ويقاس عليها.. لا نعت يليق بإبداع فاتح المدرس، ويفصح عنه إلا الأسطوري».
وإليكم بعض الومضات التي تضمنها الكتاب.

طفولة يتيمة
ولد فاتح المدرس عام 1922 في قرية حريتا في ريف حلب وسط بيئة فلاحية تجمع مزيجاً من العرب والكرد والتركمان، وينحدر والده من أسرة عربية معروفة بنفوذها الإقطاعي، أما والدته فكانت من أصول كردية.
قُتل والده وهو طفل لم يتجاوز عمره اثنين وعشرين شهراً إثر معركة خاضها بمفرده ضد خمسة عشر عنصراً من قطاع الطرق، وبعدها عاش مع أمه طفولة شقية محرومة، متنقلاً في قرى الشمال عند أخواله، وقد تركت تلك السنوات أثرها العميق في وجدانه وسلوكه الاجتماعي وإنتاجه الفني والأدبي.
تعلق فاتح في طفولته بأمه وأعجب بها حتى صار ينظر إليها كما لو أنها قطعة من المكان، وقد عبّر عن حبه لأمه عبر كل فعالية قام بها على مدى عمره الطويل، كما انعكس تعلقه بأمه على نظرته الإيجابية للمرأة بشكل عام.
غادر حياة الريف وهو في الثامنة ليقيم عند أعمامه بحي الفرافرة بحلب، وهو حي يضم مجموعة من العائلات الأرستقراطية، لكنهم عندما خيروه فضل الإقامة مع والدته في أحد البيوت البسيطة في حي باب النصر، وحين دخل المدرسة الابتدائية اكتشف أستاذ الرسم شريف بيرقدار موهبة فاتح المتميزة.

موهبة مبكرة
أظهر فاتح منذ طفولته الأولى مهارة في الرسم وميلاً إلى الموسيقا إلا أن مواهبه هذه لم تلق أي تشجيع من أهله.
وعندما دخل المرحلة الثانوية ازدادت ممانعة أهله لكن تلك الممانعة لم تزده إلا تعلقاً بالفن، وقد ساعدته الظروف في تنمية موهبته وإبقائها تتدفق من داخله كنبع صاف.
توجه فاتح إلى القراءة المكثفة من دون مرشد أو ناصح ولا برنامج ولا دليل، فقرأ كتب ابن سينا الطبية وشيئاً من كتب محي الدين بن عربي وأشعار طاغور والمهابهاراتا الهندية، كما قرأ قصص الخيال العربي.
انتقل للدراسة في الكلية الأميركية في حلب على أمل أن تتاح له فرصة دراسة الطب في الجامعة الأميركية ببيروت لاحقاً، لكن إدارة الكلية فصلته لمشاركته المتكررة في التظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي.
سافر إلى عاليه بلبنان لمتابعة دراسته في الجامعة الوطنية وهناك تعرف على الأديب مروان عبود الذي كان معلماً وصحفياً وناقداً وقاصاً وكاتباً وشاعراً، وقد اكتشف المواهب الأدبية والفنية التي يتمتع بها فاتح فنشأت بينهما علاقة متميزة هي أقرب إلى الصداقة رغم فارق العمر وطبيعة علاقة الطالب بالأستاذ.
في عاليه تطورت لغة فاتح الإنكليزية فراح يطلع على الأدب العالمي ويدرس تاريخ الفن ومدارسه الحديثة، وعقب تخرجه في الجامعة الوطنية عاد إلى مدينته حيث عمل مدرّساً للغة الإنكليزية والتربية الفنية، وبدأت مشاركاته الفنية تظهر إلى جانب إسهاماته الأدبية في الشعر والقصة التي كان ينشرها في الصحف والمجلات، وقد نشرت قصيدة بعنوان «الأمير» في مجلة «القيثارة» في اللاذقية عام 1946 وفي تلك المرحلة تعززت علاقته بالشعراء والمثقفين المعروفين.

عفوية الفرشاة
في تلك المرحلة قادت روح التمرد فاتح المدرس نحو آفاق جديدة، ودام انغماسه في المرحلة السريالية منذ عام 1947 حتى عام 1956 لكنه سرعان ما تخلص منها وعاد إلى طبيعة ريف الشمال السوري.
لم يجد هويته الفنية المميزة وأسلوبه الخاص بسهولة، فالهوية على حد قوله كالحرية تصنع صنعاً، وإذا لم نصنعها نظل عبيداً لمعارفنا وثقافتنا السابقة والقديمة.
اعتمد في تلك المرحلة على عفوية ضربات الفرشاة بعيداً عن التمثيل الواقعي للأشياء، وفي عام 1950 أقام المعرض الأول لأعماله في نادي اللواء بحلب، وبعد عامين شارك في معرض الصداقة في نيويورك، كما شارك في المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق، وقد كان لهذه المشاركة أهميتها الكبرى إذ نال الجائزة الأولى في التصوير عن لوحته «كفر جنة»، ثم تتالت الجوائز من داخل الوطن العربي وخارجه.
في عام 1954 وضع مؤلفاً من ثلاثة أجزاء عرض فيها موجز تاريخ الفنون الجميلة ليكون مرجعاً لأساتذة مادة الفنون في المدارس السورية.
عام 1957 سافر إلى روما لمتابعة دراسته ومن حسن حظه أن أشرف على دراسته الفنان الإيطالي فرانكو جنتليني الذي كان من أعظم فناني إيطاليا آنذاك.
وقد فاز بالجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وفاز بالميدالية الذهبية التي يمنحها مجلس الشيوخ الإيطالي كما أقام عدة معارض في إيطاليا وأميركا والسويد وألمانيا.
أثناء دراسته في إيطاليا التقى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر فترافقا لعشرة أيام، تحاورا خلالها في الفن والسياسة وكل شيء، وقد ترجم سارتر إلى الفرنسية أربع قصائد كتبها المدرس بالإيطالية. كما اقتنى ثلاث لوحات من المعرض الشخصي الذي أقامه لفاتح في غاليري «شيكي» عام 1959 في روما.

دراسات عليا
عقب عودته إلى الوطن بفترة قصيرة، عُيّن معيداً في كلية الفنون الجميلة بدمشق عند إحداثها عام 1961.
وبعد عمله لفترة في التدريس سافر إلى فرنسا عام 1962 لمتابعة دراسته العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس ونال الدكتوراه عام 1972.
وبعد عودته إلى سورية عُيّن أستاذاً للدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق عام 1977، وأصبح مرسمه وسط دمشق مركز إشعاع ثقافي واجتماعي تلتقي فيه كل القوى الحية في المجتمع من ساسة وأدباء وصحفيين ونقاد ومسرحيين ومغنين وراقصين وفنانين تشكيليين من مختلف المدن والبلدان.
وخلقت تجربة المدرس حالة توازن نادرة في الفن العربي، فهي تجربة شخصية واقعية من غير أن تكون كذلك كلياً، وهي تجربة تجريدية من غير أن تكون كذلك تماماً، وهي تجربة مرحة من دون فرح، ومأساوية من دون كآبة.
لم يكن فاتح المدرس يعيش في برج عاجي بعيداً من هموم وطنه، بل كان يتصدى في أعماله لمختلف القضايا الإنسانية والوطنية، فقد تناول مأساة فلسطين ونكسة حزيران والحرب الأهلية في لبنان وغيرها من الأحداث القومية، كما تناول القضايا الثقافية والتاريخية.
كتب فاتح الشعر فلقب بشاعر الرسامين وكان قريباً من الشعر في لوحاته فلقب برسام الشعراء.
وشارك في تأسيس نقابة الفنون الجميلة وانتخب نقيباً لها لمدة 11 عاماً وظل يعمل أستاذاً محاضراً في كلية الفنون الجميلة إلى أن أحيل على التقاعد عام 1993.

نهاية الرحلة
لم يتوقف فاتح المدرس عن الرسم في محترفه في ساحة النجمة بدمشق إلا قبل شهر واحد من رحيله في الثامن العشرين من حزيران عام 1999، وقد شيع في جنازة مهيبة، ودفن بناء على وصيته في مقبرة «الباب الصغير» إلى جانب الشاعر الكبير الراحل نزار قباني.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن