من دفتر الوطن

قذارة مزدوجة

| حسن م. يوسف

عندما قرأت لأول مرة عن قذارة الهواتف المحمولة لم آخذ الأمر على محمل الجد، إذ حسبت أن الموضوع مجرد مبالغة إعلامية، الغرض منها إثارة الاهتمام وزيادة عدد القراء فقط. غير أن الموضوع ظل يلح عليَّ كلما رأيت أحفاد شقيقتي وهم مستغرقون في اللعب بهواتف آبائهم وأمهاتهم. لذا قررت أن أتحقق من مدى جدية هذا المسألة، ولم يحتج الأمر لجهد يذكر، إذ وقعت على دراسات عديدة تختلف في التفاصيل لكنها تجمع على قذارة الهواتف المحمولة التي تصل في حالات كثيرة إلى مستوى الخطر الجدي على الصحة، فقد أثبتت الدراسة التي أجرتها الشركة البريطانية المتخصصة في المغاسل والحمامات، (Initial Washroom Hygiene) من خلال فحص عينات عشوائية من الهواتف الذكية، أن تلك الهواتف أقذر بنحو سبع مرات من مقاعد المراحيض! والصادم أكثر في تلك الدراسة هو أن الهواتف المحمية بغلاف جلدي، تحتوي على معظم أنواع البكتيريا، كما أن الأغطية البلاستيكية التي يسهل تنظيفها، تحتوي على أكثر من ستة أضعاف الجراثيم الموجودة على مقعد المرحاض!
والحق أن القذارة الخارجية للهواتف الذكية ذكرتني بأن آثارها الداخلية قد لا تكون أقل تلويثاً وخطورة على الصحة النفسية لمستخدمها. وكيلا يتهمني أحد بأنني معاد للتطور التكنولوجي، اسمحوا لي أن أذكركم بموقفٍ لأحد صانعي ثورة المعلوماتية والاتصالات التي شهدها العالم خلال نصف القرن الماضي، هو ستيف جوبز، الذي كان اسمه قبل التبني مصعب عبد الفتاح الجندلي الرفاعي، فوالده من مدينة حمص السورية، وقد تجاوز قصته الحزينة وأثبت نفسه كرائد أعمال، ومخترع، ومهندس، ومصمم، وعالم حاسوب، ومنتج منفذ، ومنتج أفلام، وخبير مالي. فقد أسس ستيف جوبز شركة آبل وكان مديرَها التنفيذي ورئيس مجلس إدارتها، ثم أسس شركة بيكسار إحدى أكبر شركات إنتاج أفلام الكرتون ثلاثية الأبعاد وصار رئيسها التنفيذي، وأخيراً أصبح عضواً في مجلس إدارة شركة والت ديزني الشهيرة. وخلال حياته التي دامت 56 عاماً، أتحف البشرية بسلسلة من الأجهزة السحرية، فقد اخترع فأرة الحاسوب في بدايات ظهور الكمبيوتر الشخصي، كما اخترع الشاشات التي تعمل باللمس، وأجهزة الكمبيوتر اللوحية… الخ.
لكنه على الرغم من كل ما سبق لم يرد أن يكون أولاده من المهووسين بالأجهزة التي اخترعها.
فقد صرح جوبز لـجريدة «نيويورك تايمز» إن أولاده «لم يستخدموا منتجات شركة «آبل» لما تتركه من آثار سلبية على المدى الطويل، نتيجة اللمس المتواصل للشاشة، لفترة تصل أحياناً إلى ساعات طويلة. »
وقد اعترف جوبز للجريدة بأن أولاده «يتهمونه وزوجته بالقسوة، ويقولون إن أياً من أصدقائهم لا يخضع لمثل هذه القواعد. «وقد أكدت ابنته الكبرى التي تُدعى ليزا برينان جوبز، هذه الحقيقة، ووصفت والدها في مذكراتها بأنه «كان قاسي الطبع والمعاملة» خلال سنوات مراهقتها. وقد برر جوبز سلوكه هذا في لقاء نيويورك تايمز بقوله: «نحن رأينا مخاطر التكنولوجيا مباشرة، لقد رأيت ذلك بنفسي، أنا لا أريد أن أرى ذلك يحدث لأطفالي».
وقد أوضح جوبز في ذلك اللقاء نمط حياة أسرته إذ قال: «كل مساء أجلس مع أولادي لتناول وجبة العشاء على طاولة كبيرة في المطبخ، ونناقش الكتب والتاريخ ومجموعة متنوعة من الأشياء. لا أحد منا يسحب آي باد أو آي فون أو أي جهاز آخر ليغرق فيه وينعزل. لا يبدو أولادي مدمنين على الأجهزة الإلكترونية على الإطلاق».
وقد أكدت دراسات أجريت في بلدان مختلفة أن الطفل العادي يمضي أكثر من سبع ساعات يومياً أمام شاشات الأدوات الإلكترونية وأن التوقف عن ذلك لبضعة أيام يؤدي لتحسن المهارات الاجتماعية للأطفال. وقد سبق للعبقري الأكبر ألبرت آينشتاين أن عبر عن خوفه من اليوم الذي وصلنا إليه إذ قال: «أخاف من اليوم الذي تتفوق فيه التكنولوجيا على التفاعل البشري، حينها سيمتلئ العالم بجيل من الحمقى».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن