ثقافة وفن

أين أنت؟

| ضحى مهنا

بحثتُ عنه فما وجدت سوى ظلّ باهت. أردتُ أن أسمع «أنا هنا، أو.. نحن هنا.. استمعوا إلينا، لا تتجاهلونا؛ نحن قوة الغد التي تغيّر المجتمع نحو الأفضل بمحبة وصدق وجسارة، نحن 40% من المجتمع، فلا تستهينوا بنا. وما سمعت صوتاً يقول هذا في تلك القصص في مسابقة جمعية الفتية التجارية التي كنت عضواً في لجنة تحكيمها منذ زمن قريب.
سألتُ عن العائلة التي تمد أبناءها بالثقة والأمان العاطفي قبل المادي. أين المعلم المخلص؟ أين الصديق؟ أين القريب أو الجار؟ أين الكتاب من رواية وشعر وقصة؟ أين الفيلم السينمائي أو التلفزيون وغيرها من ينابيع الثقافة. وما وقعتُ على قدوة حسنة قريبة أو بعيدة من هذا الشاب أو هذه الصبيّة، فلا غرابة أن يعاني هؤلاء الوحدة والضحالة في الثقافة واللغة والضعف في الخيال، فابتعدوا عن الحياة الحقيقية. أذكر أني ومن معي حجبنا الجوائز عن الجميع، وأوصيتُ في ورقتي أصحاب المسابقة بتوزيع الكتب على أولئك الفتية في الحكمة والتاريخ والاجتماع وفي الأدب العربي والعالمي، وأن يهيّئوا لهم نشاطاً ما جماعياً، ليخرجوا من تلك الوحدة المعيبة «العار» وسط هذه الحياة الموّارة الغنية بالمعارف.. وكانت الجمعية تلك نشطة في أعمالها الإنسانية.. ولكنني رأيتُ أن الشخصية القدوة هي من يحتاجها هؤلاء الفتية الذين يفتقرون إلى التجربة الحياتية والمعرفة الغنية.
أتذكر الآن كيف عبرت وغيري مرحلة الشباب، فقد عشنا في زمن كان للعلم مكانة رفيعة فهو المفتاح للوصول إلى الأحلام الخاصة والعامة بعيداً من المادية المتوحشة، كنا نجد حولنا دائماً من يعمل في صمت وهدوء بعيداً من المباهاة والتبجّح بدءاً من البيت وليس انتهاء بالمدرسة والجامعة، وتعلّمنا منهم كيف نحب اللـه والناس والوطن!
أذكر فيما أذكر ونحن في طريقنا لقضاء إجازة الصيف في قرية أحد الأقرباء، أني رأيت الأستاذ سليمان خدام يرصف مع طلابه وأهل قريته طريقاً ترابية بعيدة، ليصلوا بها إلى الطريق الرئيسية، فيختصروا الزمن، ويسرع عمل الدولة لتأتي وتدلق الزفت فوق تلك الحجارة.
وفي سنوات تالية، تذكرت الدكتورة ملكة أبيض وهي تسير بنا نحو أحد مراكز محو الأمية، لنساهم في العمل بذلك المشروع النهضوي، وكانت تحدثنا بألا تقدم إلا بالعلم، وبناء العقل، والمرأة لها الحق الكامل في العلم، وقد رافقتنا يوماً إلى حيث كان الرحابنة وفيروز والفرقة، يتدربون بعد أن يسّر لنا ذلك الأستاذ نجاة قصاب حسن، همست الدكتورة ملكة أبيض «هذه فرصة ثمينة لتطلعوا على الخلق الفني، كيف يولد بالجهد والمثابرة، وكيف ينتهي إلى الإبداع»، والحق أننا لمسنا ذلك، فقد كان الفنانون يعيدون التمارين مرات ومرات عديدة، وشعرنا بالجهد الشاق والعمل الدؤوب للوصول إلى الإتقان وتحدي الإبداع.. وما كانت فيروز مستثناة.
تتالت السنوات، فعادت ابنتي من المدرسة يوماً سعيدةً، فقد نظفت مع التلاميذ ساحة المدرسة والصفوف مع الأستاذ محمود سعيد عمو أبو علي، وهو يقول لهم «إن المدرسة لهم وعليهم أن يحافظوا عليها»، وقد شجعهم على تعليق لوحات من رسومهم على جدران المدرسة، فقد يخفّ شحوب الطلاء ووعدهم بأن يسعى في وقت قريب لطلاءٍ جديد. وتضيف ابنتي بأن عمو أبو علي ما نسي أن ينبّه إلى إطفاء اللمبات، «فالنهار اليوم ساطع بنوركم يا صغار»
تلك الشخصيات القدوة سميّتها في روايتي الجزء الثاني مع من سمّيت «أنبياء الأرض»، فهم كانوا يدعون إلى ما دعا إليه أنبياء السماء، وكان لهم أتباع لا أعرف إن وصلوا بهم إلى النجاح، لكنني أجزم أنهم اقتربوا منه كثيراً.
وأما هؤلاء الفتية الأحبة فهم أمانة ونعمة، يحتاجون إلى من يسير قربهم راعياً صبوراً يحبهم ويحترمهم، ولا يتركهم للتسطيح والهزال مع بعض رفاق السوء أو بعض التكنولوجيا التي تشده بقوة، فنعلمه بأن التكنولوجيا هذه تملك معرفة عظيمة وممتعة وما عليهم سوى التعامل الحسن مع مفاتيحها المدهشة التي تنفتح تحت أصابعهم الرشيقة.
من يدري فقد يخرج من بين هؤلاء الفتية، نبي أو أكثر لينضموا إلى أنبياء الأرض، فيعيدوا لها كرويتها واستدارتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن