في برنامج وثائقي أُعِدَّ عن المطور والملياردير الأميركي بيل غيتس، تقول إحدى مساعداته عنه، بأنه يصل إلى العمل على الوقت دائماً، وبأن برنامجه لم يتغير منذ تخلى عن منصبه كرئيس لمجلس إدارة ميكروسوفت ليتفرغ للأعمال الخيرية والبحث العلمي في المجالات التنموية ولاسيما البيئة.
تضيف وهي تقوم بترتيب مجموعة من الكتب في حقيبة، إن غيتس يعتبر أن الوقت هو السلعة الوحيدة التي لا يمكن إعادة شرائها، وأنها في طور النفاد دوماً، وأن الساعات الأربع والعشرين اليومية، لا تتجدد وبالتالي يجب استثمارها بالدقائق والثواني.
عقلية، ربما تتعاكس تماماً مع عقليتنا الشرقية، القائمة على أساس اعتبار الوقت امتداداً لا نهائياً لأفق بعيد لا يمكن بلوغه، وبالتالي فإن التلاعب في فضائه إستراتيجية وتكتيك ولاسيما كما نقول بالسياسة.
صحيح أن الوقت سيد كل الأبعاد، لكن بالنسبة لنا كأحياء، لا كظواهر طبيعية أو جماد، الوقت يعني أننا ننفد نحن أيضاً، وأن أبعاد مستقبلنا تتقلص، وأن الوقت الذي نمتلكه حتى كدول في سياق نظرتنا لتاريخ طويل، هو أيضاً وقت يحسب علينا لا لنا، وهو يضيع تماماً من دون إنجاز يذكر.
على كل، بالعودة لعالم بيل غيتس الغريب عنا، تقول مساعدته بعد أن انتهت من توضيب حقيبة الكتب: إن الرجل يحمل كتباً أينما ذهب. وإنه وفقاً لأحد أصدقائه يقرأ نحو خمسة كتب في الأسبوع الواحد، وهو لا يفعل ذلك بالطريقة التي نقرأ بها كتبنا، بل يسجل الملاحظات، على الصفحات الداخلية، ويتوقف عند الجداول العلمية، ويقارن، وفوق هذا كله فإن قدرة الرجل الاستثنائية من الناحية الذهنية تتيح له قراءة نحو 150 صفحة في الساعة الواحدة، والحديث هنا كما ذكرت عن كتب علمية مختصة، لا روايات عاطفية.
نشأة غيتس الذي تربع على عرش أثرياء العالم لسنوات، لم تكن صعبة، فعاش حياة مريحة مع أسرة مقتدرة، لكن نبوغه ظهر مبكراً، وتزامن مع ظهور الحواسب في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبسبب نهمه للقراءة والمعرفة، قاده فضوله مع أصدقاء للتجريب في هذا الحقل، حتى تبنته شركة «آي بي إم» الشهيرة ومن ثم استقل تاركاً تحصيله العلمي في هارفرد للتفرغ لمشروعه الشخصي، وهو ميكروسوفت. في الطريق لهذا المشروع، اشتهر الفتى غيتس في بلدته، ومن ثم في مدينته وولايته، بإعداد الخوارزميات لبرامج الدراسة الجامعية، والبلديات، والمجالس الحكومية المحلية، حتى خطا الخطوة الكبيرة في عالم الحواسب، فكان لا ينام إلا ساعات قليلة، ويبقى حاضراً في كل نوبات الموظفين، حتى إنه كان يحفظ أرقام لوحات سياراتهم فيعرف من غادر ومن بقي، وكان يقول ساخراً: إن الدوام في شركته الناشئة طوعي، فتستطيع اختيار أي 12 ساعة من اليوم ترغب فيها.
وعندما حقق حلمه، ليس ببلوغ الثراء الهائل، وإنما ببناء ميكروسوفت، انتقل للعمل التنموي، وأتذكر أن خبراً أنعش فضولي عنه منذ أشهر، تحدث عن إعلانه اختراع أول دورة مياه تقوم بتنظيف نفسها نفسها، من دون الحاجة لطاقة أو مياه، ومن دون الحاجة لشبكات صرف صحي، مشروع استغرق منه خمس سنوات عمل وكلف أكثر من نصف مليار دولار.
أذكر هذا وأعرف أن كثيرين سيسخرون من صرف مبلغ كهذا على فكرة كهذه. ولكن هذا هو الفرق بين غيتس وغيره.