ثقافة وفن

امتهان الفن لم يكن ببالي إلا عبر فرقة «أمية» … غادة بشور لـ«الوطن»: لقّبوني بـ «الراقصة المحتشمة» لارتدائي العباءة أثناء الرقص الذي لم أقدمه في ملاهٍ ليلية

| سوسن صيداوي

لم تدرِ الفتاة الصغيرة بأن ما سمعته من نوتات وأغانيات تراثية ممزوجة بأصوات تشجيعية خلال رقصات ودبكات شعبية ستسير هي يوماً على إيقاعاتها المتعددة لتصيب بقرارها في اختيارها لمهنتها، في تلك الأثناء كانت فتاة بربيعها الرابع عشر، شدّتها الأصوات فاتجهت وسألت: من هؤلاء، وماذا يفعلون ولماذا يتدربون؟ ليأتيها الجواب: بأنّ الفرقة هي فرقة «أمية» للفنون الشعبية. فاستجمعت قواها وطلبت الإذن من أهلها لتنضم للفرقة، وبالطبع الأمر في ذلك العمر كان مستحيلاً كونها لازالت ترتاد المدرسة.
إنها الفنانة غادة بشور التي تابعت السير وفق الإيقاعات مع الخطوات متمسكة بالأصالة والاحترام في احترافها للرقص الشعبي أولاً ومن ثم للرقص الشرقي، شامخة بالتراث، كاسرة الحواجز، ولازالت حتى هذه اللحظات، دقات قلبها تتسارع فرحاً عند سماع الموسيقا، أو بتذّكر الأيام السابقة، أو بمجرد النهوض والانسياق طوعاً بمرونة الجسد بحركات تعبّر عن الرقص كفنٍ يُحترم، وكان قد نال كلّ التقدير وحُسن المتابعة مع التشجيع من الجمهور الراغب بحضور عروضها الراقصة.
للمزيد حول بدايات الممثلة غادة بشور وانطلاقاتها وخوضها للرقص الشرقي، نترككم مع حوار «الوطـن» لها.

بداية حديثنا عن انتسابك لفرقة «أمية» للفنون الشعبية، كيف تم الأمر؟ هل كان بالصدفة أم كنت مصممة على الانتساب إليها؟
لقد كان مقر فرقة «أمية» قريباً جداً من منزلي، وكنت أسمع عزف الموسيقا والأغاني التراثية المتعددة وغيره من الأصوات التشجيعية، والتي كلّها حمستني ودفعتني ذات مرة وأنا في الرابعة عشرة من عمري، فتقدمت للمكان وسألت الموجودين، الذين أخبروني بأن البناء يعود لمديرية المسارح ويقع فيه المسرح العسكري وكذلك مقر فرقة «أمية» للفنون الشعبية التي يصلني صوت أعضائها سواء العازفين أم المغنين وحتى هتاف الراقصين.

لكن هل كان في محيطك مشجع لك للانتساب إليها؟
منذ صغري كانت هوايتي الرقص والغناء والتمثيل، وفي الفترة التي ذهبت واستطلعت فيها عن الأصوات- كما أشرت أعلاه- كنت بعمر الرابعة عشرة، وبهذا السن نذهب للمدرسة، ولكن هذا لم يمنع ذهابي يومياً إلى «أمية» كي أراقبهم أثناء التمرينات. لقد كنت مبهورة بما أراه من حماس ومن عدد كبير يفوق المئة والخمسة عشر عنصراً، متنوعين ما بين شباب وشابات، راقصين ومغنين وكورس، وما بين موسيقيين ومدربين ومختصي أزياء، كانت الفرقة متكاملة بكل شيء.
في ذلك الوقت كان لفرقة «أمية» سمعة مهمة عدا عن قيمتها المحترمة في الأوساط الفنية والمهرجانات والاحتفالات والمناسبات الرسمية المحلية والعربية والعالمية.
وفي البداية ولأنني بعمر صغير رفضوا انضمامي إليها ولكنني كنت مصممة بقراري وتمسكت بالانتساب إليها، بالطبع الأهل كانوا معارضين جداً بأن أدخل الوسط الفني، فرغبتهم كحال كل من يحيط بنا بأن نتابع دراستنا، ولكن من هنا وأقولها وبكل صراحة إن امتهان الفن لم يكن ببالي أبداً إلا عبر فرقة «أمية» بالذات.
(وتتابع ضاحكة) لقد تعرضت للضرب من والدي ووالدتي كي أعدل عن فكرتي، إلا أنني أصرّيت وبالنهاية رضخوا للأمر الواقع ووافقوا، الأمر الذي اضطر أمي أن ترافقني يومياً وكل صباح إلى التدريبات حتى ننتهي منها.

معروف أنه في تلك الفترة كان هناك دعم كبير من وزارة الثقافة من حيث استقدام الخبراء الأجانب والمدرسين وتقديم الدعم المادي للفرقة… كيف وجدت ذلك الاهتمام.. اشرحي لنا؟
بصراحة «أمية» فرقة الفنون الشعبية كانت رائعة جداً، ومن مميزاتها وجود الفرقة الموسيقية التي كانت تضم أساتذة مخضرمين، ويضاف لهم الكورس والأغاني والإنشادات وهنا لابد لي من التنويه بأننا لم نتعلم أنواع الرقصات ورقص الباليه فقط، بل كانت التدريبات تضم تمرينات الصولفيج كي نتقن أداء الغناء حتى لو لم نمتلك صوتاً جميلاً، وذلك بغرض أن نتفاعل مع اللوحات الراقصة ونوحي بتعابير وجوهنا، لنكون أقرب للجمهور المتابع بنقل الأحاسيس والمشاعر التي تحملها اللوحات المقدمة، وأستشهد هنا كمثال رقصة (السماح) التي فيها عدد من الحركات المختلفة، وكان المطلوب منا أن نحفظ الخطوات وحتى الإنشاد كي نقدم اللوحة بما تطلبه دقتها. ولابد أيضاً من ذكر مزيج الرقصات الشعبية المنوعة والتي تعتمد في أدائها على إيقاع الدبكة السورية والرقص الجماعي الذي يشترك فيه كل الراقصين من شبان وشابات، والتي تعتمد في أدائها على إيقاع منتظم سريع أو بطيء، يتماشى مع أنغام الموسيقا أو الأغاني الشعبية أو إيقاع الطبل والمزمار، ومن هذه الدبكات: الميجنا، ياغزيل، الدلعونات، أم الجدايل، القبضايات، الموليا، الكرجه، الشلبية.
وبالعودة للسؤال وبالنسبة للمدربين، في الوقت الذي انتسبت فيه إلى الفرقة كانوا كلّهم سوريين، ولكنهم سافروا إلى الاتحاد السوفيتي سابقاً وأجروا دورات تدريبية منهم: كمال كركتلي مدرب الدبكة، عمر عقاد مدرب رقصة السماح، كما ودربنا المدرب سعيد زعيتر، للأسف لم تسعفني الذاكرة كي أذكر الجميع، ولكن أيضاً كان معنا ويدربنا الفنان الذي أحبه كثيراً وله في قلبي جانب كبير، إنه الأستاذ حسام تحسين بيك، حيث كان يدربنا على لوحات الرقص البدوي وعلى العديد من الرقصات الأخرى، وهنا أحب أن أشير بأنني من هذه الفرقة انطلقت وأنا سعيدة بهذه الانطلاقة، وخصوصاً أن مهمة «أمية» الحفاظ على التراث الشعبي: رقص- موسيقا- غناء- أزياء، وكانت تسعى لتطويره بما يتناسب مع الشكل الفني المسرحي ويواكب بنفس الوقت التطور والحداثة.

هل تصفين لنا مشاعركم أثناء العروض أو السفرات للدول العربية والعالم؟
في الحقيقة الأوقات التي كنا نمضيها أثناء التدريبات والعروض والسفريات، هي من أجمل الأوقات وأسعدها وبصراحة مشاعرنا لا توصف بالنجاحات والتكريمات التي حققتها «أمية» في لقائها الجمهور العربي والأجنبي، فتفاعل الحضور وتشجيعهم لنا كان جدّ رائعاً، هذا عدا عن أننا كنا حقاً كعائلة كبيرة ونعمل كيد واحدة، متكاتفين جداً بالأفراح والأتراح، ولو أصاب أحدنا مكروه تجد الجميع حوله دون استثناء، وبالطبع هذا يأتي بداية من الدعم الكبير الذي كان يأتينا من وزارة الثقافة والتي نحن تابعون لها، ففي السفرات نتقاضى المكافآت والتعويضات، وزرنا الكثير من بلدان العالم مقدمين التراث السوري بأجمل اللوحات، دون أن نكترث لاحتياجاتنا أثناء السفر.
من كان معك في «أمية» وتابع المشوار في الدراما السورية؟
من سيدات الدراما السورية، كان معنا بالفرقة صباح الجزائري وحسام تحسين بيك وأيمن بهنسي، وبالطبع لابد من الإشارة إلى وجود فرقة (التلفزيون) الرديفة لـ«أمية» والتي احتوت على الكثير من نجوم الدراما الحاليين.

معروف عنك انصياعك لخياراتك الصعبة في الحياة، هذا وكنت اخترتِ التفرد وانطلقتِ إلى الرقص الشرقي.. حدثينا كيف تم الأمر؟
صحيح بأن الناس تحب الرقص الشرقي، ولكن أنا كنت فارضة احترامي على نفسي أولاً وعلى الرقص بذاته، هذا والجمهور كان يحبني ولقبوني بـ(الراقصة المحتشمة) لارتدائي العباءة أثناء الرقص الذي لم أقدمه في ملاهٍ ليلية، بل في أماكن ومطاعم عائلية وكانت العائلات تأتي إليّ وتشاهد عروضي الراقصة.
للبيئة المحيطة دور أساس في الدعم والامتهان، ما تعقيبك؟
بالطبع المحيط عامل أساسي في الاستمرار والامتهان فيما نختار، ولكن هذا لا يمنع بأنني تعرضت للمضايقات وللكثير من الانتقادات، التي لم تُثن من عزيمتي في الاستمرار باحترافي وامتهاني للرقص الشعبي أو الرقص الشرقي، فلقد فرضت الاحترام بأسلوبي، وحتى اليوم شغفي في الرقص لم يتغير، وأظن بأنه حان الوقت لتكون النظرة قد اختلفت حول الرقص الشرقي، أو في تقديره ومن حيث الاستمتاع به كفن.

ولكن كيف واجهتِ المجتمع واستمريتِ رغم التحديات؟
صدقيني إن محبة الجمهور وقدومه لمشاهدة عرضي الراقص هو السبب في استمراري بالرقص الشرقي، وللأمانة في تلك الفترة كان من الصعب أو من شبه المستحيل أن تتمكن العائلات من الحجز في اليوم ذاته، إذ كان عليها أن تحجز قبل عدة أيام.

حتى اليوم ماذا يعني لك الرقص الشرقي.. ولماذا لم تفكري بتأسيس مدرسة احترافية خاصة بك؟
الرقص عالم آخر، وبهذه الأيام أنا ألاحظ بأن هناك اهتماماً بتقديم الدورات الراقصة، انطلاقاً من عوز الناس للفرح وللتنفيس عن الذات والغضب الكامن نتيجة ضغوطات الأزمة والحياة، فلا يوجد أجمل من الموسيقا، وبالطبع الرقص ضرورة لتحريك الجسد ولتفريغ الطاقة السلبية فيه، إذاً هو حالة صحيّة. وعن الشق الثاني من السؤال… الفكرة راودتني كثيراً وحتى على سبيل أن أقدم دورات تدريبية للرقص الشرقي أو للدبكة والفنون الشعبية الأخرى، ولكن هذا الموضوع يحتاج لمكان كبير ومجهز، وبصراحة إن تم العرض عليّ للتدريب وفق مكان كبير وشروط جيدة، وحتى وأنا بهذا العمر فأنا قادرة. وأضيف.. للأسف لم أتمكن من أن أؤسس مدرسة للرقص الشرقي خاصة بي، لأنها تحتاج لمبالغ وإدارة، فالأمر ليس بالسهل.

السؤال الأخير.. هل تتابعين مشهدية الرقص الشرقي العربي؟
في الوقت الحالي لا يوجد رقص شرقي أصيل ومتزن بكليته، وحتى بالصدفة عند متابعتي للتلفزيون، ويمرّ برنامج يعرض رقصاً شرقياً، صدقيني لا أستطيع المتابعة وأغيّر المحطة فوراً، لأننا لم نعد نرى رقصاً شرقياً متزناً أصيلاً بكل شيء فيه، فاليوم ما يضمه الرقص الشرقي من عناصر تتكون من راقصات حسناوات ويرتدين أزياء- مثيرة- للبدلات الراقصة، وحتى الراقصات لا ينتمين للرقص الشرقي بحركة، وكل ما يفعلنّه هو هزّ الخصر والجسم بأسلوب مبتذل، وهذا أمر مرفوض، فالرقص الشرقي فن مُحترم بلبسه وحركاته ووقوف الراقصة على المسرح.
وهنا لابد من الإشارة بأن الغرب ينظر لفنوننا نظرة مختلفة عما نحن نعتبرها أو في طريقة تقديرها، أتمنى أن تنهض الأفكار وتتطور لترى الجمال بعذوبته بعيداً عن العقد والرواسب المتخلفة للفكر.
وأخيراً أنا أرى الرقص من الأمور الجميلة وحتى في طريقة التقديم أو العروض، وبرأيي هذه فنون راقية جداً ولقد أمضيت نصف عمري تقريباً بالرقص الشرقي أو بفرق الفنون الشعبية، ومن بعدها انتقلت إلى الدراما لأن الراقص عند عمر معين يفقد المرونة المطلوبة في جسده، ولا يستطيع أن يكون جسمه مطواعاً كما في بداياته، فانتقلت للتمثيل، والحمد لله أنا مستمرة به ولازلت أقَابل بحب الجمهور وتقديره، وأختم بأن الرقص فن يُحترم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن