«الصراع من أجل الحرية مستمر، نحن نرى ذلك في شوارع بيروت وبغداد، حيث تتظاهر الشعوب ضد إيران وحزب الله».
هكذا وصف وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو موجتي الاحتجاج اللتين تشهدهما الساحتان اللبنانية والعراقية، وذلك في كلمة له من ألمانيا في الثامن من الشهر الجاري ذكرى مرور ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين.
تصريحات بومبيو تأتي بينما تمر منطقتنا بمنعطف تاريخي يتم خلاله من جديد طرح قضية العلاقة مع نظام الثورة الإيرانية على العقل العربي وبإلحاح شديد، وذلك عبر ضخٍ إعلاميٍ مكثف تقوم به الآلة الإعلامية الممولة بالبترودولار الخليجي تحت عناوين محذرة من خطر «المشروع الإيراني». صحيح أن الدعاية المعادية لإيران لم تتوقف يوماً منذ سقوط نظام الشاه عام 1979، لكنها تبلغ اليوم ذروة لم تبلغها من قبل، وذلك توازياً مع نجاح إستراتيجية نشر الصواريخ الدقيقة التي تهدد أمن الكيان الصهيوني في خمسة بلدان عربية إضافة لإيران، ليكون تهديد زعيم حركة أنصار الله في اليمن عبد الملك الحوثي في التاسع من شهر تشرين الثاني الجاري بقصف أهداف إسرائيلية حساسة، الإعلان الرسمي عن دخول اليمن كجبهة جديدة، يمكن أن تنطلق منها الصواريخ والمسيرات في لحظة اندلاع المواجهة الشاملة بين محور المقاومة والكيان الصهيوني.
ويكتسب تهديد الحوثي مصداقيته من عملية «أرامكو» التي تجاوز «تنظيمه» من خلالها أهم الخطوط الأميركية الحمراء من خلال استهدافه لعصب الاقتصاد الرأسمالي العالمي «النفط»، كما يكتسب أهميته من وقوع اليمن على باب المندب، وهو المعبر المائي الذي يتوقع أن تستخدمه إسرائيل لمواجهة الحصار البحري الذي أعلن أمين عام حزب اللـه اللبناني حسن نصر الله يوم 25 أيار 2010 أن الحزب بات يملك صواريخ أرض- بحر اللازمة لتنفيذه على كل الموانئ الإسرائيلية المطلة على البحر المتوسط، وذلك في حال أقدمت إسرائيل على حصار الشاطئ اللبناني خلال أي حرب جديدة محتملة، وهذا ما يفسر أخذ الإعلام الإسرائيلي تهديد الحوثي على محمل الجدية التامة.
في هذه الأثناء وبينما ينصب وزير الخارجية الأميركي نفسه ناطقاً باسم الحراكين الشعبيين في العراق ولبنان، يتجدد النقاش العبثي الذي سال حوله الكثير من الحبر في العالم العربي خلال السنوات الربيعية التسع الماضية والدائر حول جدلية «ثورة أم مؤامرة»، فما إن يحذر أحدنا من قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على أي حراك شعبي يفتقد القيادة والتنظيم الثوري، ومن ثم حرفه عن أهدافه وإعادة توجيهه بما يناسب مصالح واشنطن، حتى نتهم بتبني نظرية المؤامرة، مع أننا في الحقيقة ما عدنا نواجه تآمراً، فما يتوافر بين أيدينا اليوم من وثائق رسمية ومن تصريحات أميركية تتحدث بإسهاب عن تمويل وزارة الخارجية الأميركية للناشطين الثوريين، وعن استخدام آليات علم النفس الجماعي من أجل تأجيج الاحتجاجات الشعبية وتحويلها إلى فوضى ينفي ذلك، فمن أهم خواص المؤامرة أنها تحاك في السر وضمن الغرف المغلقة، على حين بات ما يجري أقرب لسياسة محاولة استحمار الشعوب وامتطاء معاناتها من أجل سوقها على الضد تماما من مصالحها.
وكمثال يساعدنا على فهم كيف تعمل البروباغندا الأميركية، وكيف يستخف المسؤولون عن إداراتها بعقول الثوار الجدد في منطقتنا، أصدر موقع «The Hill» الأميركي المهتم بنشر دراسات إستراتيجية عن منطقتنا، تقريراً تم توجيه الجزء الأول منه على ما يبدو للناشطين الثوريين الإيرانيين المعارضين، حيث يشرح هذا الجزء بالتفصيل كيف ينفق النظام أموال الإيرانيين على الحركات المعادية لإسرائيل وللوجود الأميركي في منطقتنا، وكيف يجلب ذلك السلوك الغضب الغربي وبالتالي الحصار والويلات على الشعب الإيراني، إذ يتلقى «حزب اللـه» حسب التقرير 870 مليون دولار سنوياً من طهران، بينما تتلقى فصائل الحشد الشعبي العراقي المتحالفة مع إيران ما يقارب مليار دولار، وتتلقى حماس 360 مليون دولار سنوياً، على حين يصل لحركة أنصار اللـه الحوثية مبلغ 30 مليون دولار سنوياً.
إلا أن الجزء الثاني من التقرير مناقض في فحواه، وهو موجه كما يظهر للإعلاميين العرب وللناشطين الثوريين في الساحتين العراقية واللبنانية، حيث يشرح هذا الجزء كيف تقوم إيران بنهب كل من العراق ولبنان من أجل الإنفاق على حزب اللـه والحشد الشعبي العراقي وعلى حركات حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين وأنصار اللـه اليمنية، طبعاً ما كان بإمكان الدعاية الإعلامية الأميركية أن تمارس الترويج لرسالتين إعلاميتين متناقضتين موجهتين لشعوب منطقتنا، لولا اطمئنانها الكامل لاحتكار حلفائها من حكام المشيخات الخليجية لمعظم وسائل الإعلام المتحكمة بالوعي السياسي العربي.
في الواقع لم تبتدع إيران مبدأ دعم الأحرار وحركات المقاومة الذي تشاركته مع حليفتها سورية منذ ثمانينيات القرن الماضي، بل إن رئيساً عربياً هو الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر كان السباق لانتهاج هذه السياسة في منطقتنا، إذ يكتشف الدارس لتاريخ العلاقات الإيرانية العربية مفارقة مثيرة في هذا السياق، فإضافة لدعم مصر الناصرية لحركات التحرر العربية في الجزائر واليمن وليبيا وفلسطين، قليلون يعرفون أن أول مبلغ قبضه مرشد الثورة الإسلامية في إيران الإمام آية الله الخميني كمساعدة من رئيس أجنبي خلال مرحلة نضاله الطويلة ضد نظام الشاه المتحالف مع إسرائيل، كان مبلغ «150» ألف دولار قبضها من جمال عبد الناصر في الستينيات، تلك الحقيقة أقر بها الخميني بنفسه لمحمد حسنين هيكل الذي اختاره ليجري معه أول مقابلة صحفية بعد انتصار الثورة التي قادها إثر عودته لطهران عام 1979، ووثق هيكل تلك الحقيقة في كتابه «مدافع آية الله».
كما أكد هذه الحقيقة التاريخية أيضاً «فتحي الديب» أحد أبرز مؤسسي جهاز المخابرات العامة المصرية، وسفير مصر في سويسرا في عام 1962، حيث دوّن شهادته حول الموضوع قبل أن يرحل في عام 2003 في كتابه «عبد الناصر وثورة إيران»، وقال الديب إن الخميني قد بادر فور وصوله إلى أرض طهران من ملجئه بفرنسا بالإعلان لأبناء شعبه أنه كان على اتصال مباشر ومستمر بالرئيس جمال عبد الناصر الذي لم يتردد في دعم وتقديم كل احتياجات الثورة الإيرانية، كان ناصر الرئيس الوحيد الذي دعم المعارضة الإيرانية في وجه الشاه حليف إسرائيل وواشنطن القوي، ويقول هيكل إن الاستخبارات الإيرانية «السافاك» توصلت يومها إلى الحصول على صورة للشيك الذي قدمه ناصر للإمام الخميني، فوقف الشاه مخاطباً الشعب الإيراني وبيده صورة الشيك وقال: «إن الخميني يقبض من عبد الناصر كي يستولي على الحكم في إيران، وليعطي نفطكم للعرب».
لذلك ليس غريباً أن يتردد فحوى الكلام الذي ورد في خطاب الشاه عام 1965 على ألسنة متظاهري ما سمي «الثورة الخضراء» في طهران وأصفهان وشيراز عام 2009 وهي الحركة التي اعترفت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها أنها وقفت وراءها من خلال إشرافها الشخصي على تدريب أكثر من 4000 ناشط إيراني، حيث رفع هؤلاء يومها شعار «لا تعطوا مالنا لغزة ولبنان».
فبينما تستخدم الولايات المتحدة أساليب الحرب الناعمة لبناء تيار شعبي في الداخل الإيراني لمعارضة الدعم الذي تقدمه طهران للحركات التي تقاوم الهيمنة الأميركية والوجود الصهيوني في المنطقة العربية، تحت ذريعة أن هذا الدعم تبديد للمال الإيراني، وأنه السبب الرئيسي في غضب العالم الحر «أميركا وأتباعها» على طهران، تستخدم واشنطن الأساليب الناعمة ذاتها من نشطاء مجتمع مدني مضافة إليها الآلة الإعلامية الضخمة الممولة من مشيخات وإمارات الخليج للتحذير من خطر المشروع الإيراني، الذي مد نفوذه بحسب الدعاية الأميركية إلى خمس دول عربية، من خلال الدعم الذي قدمته إيران للحركات والجيوش العربية التي تصدت للعدوانين الصهيوني والتكفيري في كل من لبنان والعراق وسورية وغزة واليمن، وكأن قضية العداء لإسرائيل قضية إيرانية بالأساس وليست قضيةً عربية! وكأن جيوش الإرهابيين المدعومة بمال قطر والسعودية لم تكن تستهدف حاضر العرب ومستقبلهم وثقافتهم بالدمار! وكأن ليبيا دمرت بسبب إيران وليس على يد الميليشيات ووسائل الإعلام الممولة بالبترودولار الخليجي!