الانسحاب الأخير للقوات الأميركية من سورية، هو رابع انسحاب يأمر به الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وعلى غرار الأوامر السابقة، فقد تم إلغاؤه على الأرض من البنتاغون، هذه المرة بذريعة عدم التخلي عن حلفاء الولايات المتحدة في مواجهة الجمهورية العربية السورية، أو ضد داعش.
وليطمئن هؤلاء، ادعى ترامب، من جهته، أنه وافق على إعادة وضع اليد على نفط المنطقة.
بيد أن صور القواعد العسكرية التي انسحبت منها القوات الأميركية، وأخذت مكانها الشرطة العسكرية الروسية، كان لها تأثير صادم في جميع سفارات العالم.
بات من المؤكد أنه في المستقبل القريب جداً، إن لم يكن اليوم، لم تعد الولايات المتحدة القوة العسكرية الرائدة في العالم، ولم تعد ترغب أساساً في أن تكون «شرطي العالم». فالقطب الأوحد الذي ساد منذ تفكك الاتحاد السوفييتي حتى فترة وجيزة، قد مات فعلاً، وحلفاء الناتو أضحوا في عداد اليتامى. لذلك تحاول كل دولة منفردة الحفاظ على نفوذها، لدرجة محاولة استعادة المكانة التي شغلتها في القرن التاسع عشر.
يبدو ذلك بمنتهى الوضوح لدى تركيا التي أدركت هذه المسألة قبل غيرها من حلفاء الناتو، حين أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمة له بتاريخ 15 تشرين أول 2016 أنه يرغب في تنفيذ «القسم الوطني» لأتاتورك، الرامي إلى إعادة احتلال شمال شرق اليونان (تراقيا الغربية، ودوديكانيس)، وكل جزيرة قبرص، وشمال سورية، وتحديداً إدلب، وحلب والحسكة، وشمال العراق، من ضمنه الموصل.
لكن الأمر يبدو أقل وضوحاً بالنسبة للأوروبيين، الغارقين منذ أربعة وسبعين عاماً في سبات «السلام الأميركي Pax Americana»، على الرغم من تصاعد وتيرة النزاعات القديمة، من الآن فصاعداً في أكثر من مكان.
ولسوف ينبغي على المملكة المتحدة، الراغبة في التحول إلى ملاذ ضريبي عالمي، الانفصال أولاً عن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من المخاوف التي قد تنتاب شركاءها الحاليين. كما سوف ينبغي عليها العودة بعد ذلك إلى سياساتها القديمة التي كانت متبعة في القرون السابقة، ومحاولة إيذاء أي قوة عظمى في القارة القديمة. وقد بدأت فعلاً بالتحريض في بروكسل ضد موسكو، وفي موسكو ضد بروكسل.
تدرك كل من ألمانيا وفرنسا عدم تناسب حجم كل منهما مع طموحاتهما. لهذا السبب حوّل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران والمستشار الألماني السابق هلموت كول «السوق الأوروبية المشتركة» إلى «الاتحاد الأوروبي». كانا يقصدان، من خلال معاهدة ماستريخت عام 1991، تحقيق حلم نابليون في خلق قوة عظمى قادرة على منافسة الولايات المتحدة والصين.
بعد ذلك، تحول هذا الاتحاد الذي تمت الموافقة عليه بحرية تامة، إلى قوة قهرية بموجب معاهدة لشبونة عام 2007. فصار بإمكان بروكسل منذ ذلك الحين إدانة بولونيا، أو رفض التصديق على ميزانية إيطاليا، مثلاً.
ترأست الألمانية أورسولا فون دير لين المفوضية الأوروبية منذ اليوم الأول من العام الجاري 2019، على حين ترأست الفرنسية كريستين لاغارد المصرف المركزي الأوروبي، ومع ذلك ترجح كفة الميزان لمصلحة برلين.
يخطط الألمان لنشر جيشهم مكان الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير، لكن تحت حماية الناتو. لقد فكروا في هذا الأمر إثر إعلان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن رغبته في نقل قواته إلى الشرق الأقصى، الأمر الذي يفرض عليهم الآن إعادة التسلح بوتيرة عالية مستخدمين «الغطاء» الأميركي لبعض الوقت.
أما الفرنسيون، فلا هم لهم الآن سوى قطع حبل المشيمة مع الولايات المتحدة. فهم عازمون الآن أكثر من أي وقت مضى على إنشاء جيش أوروبي في أقرب وقت ممكن، مع عدم التخلي عن فكرة دمج الجيوش البريطانية فيه.
لكن، لو افترضنا جدلاً أن جميع جنود الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مستعدون للموت من أجل بلادهم، فهل ثمة من هو مستعد منهم للموت من أجل بروكسل؟