ثقافة وفن

رواية العتق لمحمد حسين تحت مجهر النقد … شخصيات مزدوجة وفضاءات شعرية

| هيثم يحيى محمد

في الأزمنة كالتي نعيش فيها يصبح الاحتفاء بالكتاب فعلاً من أفعال الحياة لا يمكن إغفاله بل من الواجب الاحتفاء به وبصانعه على الدوام.. من هنا يأتي احتفاء «الوطن» بالرواية الجديدة للزميل والكاتب محمد حسين على هامش حفل توقيعها الذي أقيم في مركز ثقافي طرطوس منذ أيام، من خلال وضعها تحت مجهر نقد أربعة من الكتاب الذين كانوا ضيوف الجلسة والذين لهم بصمتهم الإبداعية في مشهدنا الأدبي السوري.

النزوع الشاعري
يبدأ العتق بالدم، فمحمد المعمّد بدمه سيفتتح الحدث، محمد العاشق الذي سفح العشق دمه وكاد يقتله، هو ثاني محمدين، ربما سيصبح ثالثاً بعد التطهر لتفوح منه رائحة البخور أو تلحق به أينما حل، والعتق إضافة لكونه حدثاً وحالة هو عنوان الرواية الصادرة عن دار أرواد للطباعة والنشر، عام 2019.
كل شخصيات الرواية إشكالية، حيث نجد إضافة إلى الشخصيات الثنائية المزدوجة روحياً وفيزيولوجياً، شخصيات مزدوجة فيزيولوجياً فقط، وواحدة روحيا، فعلي هو عمر في الرواية، وعمر هو علي، روح واحدة مع تبدّل قميص الجسد، هذا التبدل لم يأخذ بالذاكرة التي بقيت على حيويتها وكأن صاحبها لم يمت، ولم يأخذ بأكثر مما يربط الإنسان الجسد بالدنيا، الحبيبة والزوجة، فهيفاء هي زوجة عمر وزوجة علي فيما بعد. سنجد في الرواية عمر آخر لا علاقة له بعمر غونيه الذي صار علياً في حياة جديدة، وهو الشخص الذي يتقاسم الغرفة مع محمد ملفوفاً بالضماد، عمر هذا هو رسام انضم إلى ما سمي ثورة، ثم انضم إلى جبهة النصرة، لينتهي جريحاً بجوار محمد الذي حاول الانتحار، وكأنهما يتشاركان بالفعل نفسه، محاولة الانتحار، كما أننا سنجد علياً آخر غير علي اليتيم قبيل نهاية الرواية ونهاية علي اليتيم، هو علي بن محمد ابن علي اليتيم.
هناك شخصيات مفردة عابرة في الرواية، أي إنها لم تكن من الشخصيات الأساسية، لكنها كانت ذات حضور مؤثر ومهم، مثل شخصية عازف الناي، الصوفي الذي أفسح لهيفاء فضاءَ الصوفية البهي والعميق، هذا الفضاء الذي يتم ارتياده بالمعرفة والموسيقا. وهناك أيضاً شخصية سائق التكسي الثري بالمعرفة التراثية، وشخصية القس ببعدها الروحي والمعرفي.
لا تقتصر الازدواجية على الشخصيات فقط، بل تتعدى ذلك إلى الأحداث، فالثورة ثورتان رغم اختلاف كل منهما والاختلاف مع الآخر فيما يخصهما بدءاً من المصطلح وانتهاءً بالأهداف، والرواية ذاتها تمضي وفق خطين متوازيين، خطي دم: خط الحرب الموت، وهو خط ذو عمق تاريخي كوني يبدأ من زمن الأسطورة، مع أول حادثة قتل وردت في النصوص والموروث البشري، هابيل وقابيل، والتي تمّت بفك حمار، حيث لم تكن هناك أسلحة فتاكة كما الآن، لكنها كانت بداية الدم، وخط الخصب الولادة، خط ذو بعد كوني لن ينتهي إلا بنهاية البشرية.
والمكان أمكنة في الرواية أيضاً، مكان ثابت: إسكندرون، بانياس، طرطوس، بيروت، دمشق. ومكان متحرك: السيارة، القطار، المركب، وهي أمكنة تشكل بيئة حيوية بما تضمه من موجودات وأشياء وبمن فيها من أشخاص.
لغة الرواية طغى عليها النزوع الشاعري، فالشعر له متسع كبير فيها إضافة إلى اللغة الشاعرية، حيث نجد توظيفاً للشعر أتى على لسان هيفاء الشاعرة، حبيبة ومحمد وغيرهم، كما أن للشعراء الكبار حضوراً فيها، فقد استحضرتهم هيفاء إما بشخصهم مثل الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت والشاعر السوري الكبير بدوي الجبل، أو عن طريق ذكراهم كحضور الشاعر جبران خليل جبران.
أمر لافت في لغة الرواية هو استخدام ضمير الغائب «هو، هي» في سياق الوحدة اللغوية الواحدة التي يرد فيها أكثر من شخص وفي الحوار بشكل يجعل أحد طرفي الحوار أو أحد شخوص الرواية ينحى إلى الغياب.

هواء وماء سورية
أهدى محمد حسين ديوانه «يا أبتِ إني رأيتُ» إلى رفاق جيله. وأبناء جيله هم حرسُه القديم، وافد ‏حيدر وسعد اللـه مقصود، وأنا. ‏
أبناء جيل محمد، نحن، شهدنا هزائمَ وحروباً خاسرة وانتصارات لم تكتمل. كان وجهُ كلٍّ منّا وكالةَ أنباءٍ ‏خرساء، لذلك قلّما ابتسمنا في هذا العمر، وحين ضحكنا كنّا «نعيِّر» الضحكة إلى مستوى «الوسط» لئلا ‏تنقلبَ إلى بكاء. جيلنا يا صديقي جيلٌ مشرشَحٌ، ولكنه عارفٌ… ‏
العارفان الأولان، وافد وسعد، ذهبا، أو راحا، أو استراحا.. تركَنا اللئيمان.. وبقي محمد وأنا، كلّ ‏يتشبث بالآخر ويحنو بيده على ظهره حيث جرحُ أجنحةِ صديقينا الراحلَين المقتلَعَةِ لا يزال طرياً، يُرسِلُ ‏دفقةَ ألمٍ مع كلِّ انكسارٍ شخصيّ، وكلٍّ نهْدةٍ تندُّ عن سورية، البلادِ التي أكرمتْنا بهوائها ومائها- فشكراً ‏لهوائك ومائك يا سورية، لأنهما كانا نسغَ كلِّ عملٍ فنيّ صادق وأصيل. ‏
فرَزَتِ الحربُ الصادقَ والأصيلَ عن الغثِّ والـمُتاجرِ؛ لدرجة أننا نَشْتَمُّ، حتى في الكتاباتِ الإيروتيكية، ‏رائحةَ ماءِ وهواءِ الحرب، وأننا نكتبُ الفرحَ بأعينٍ دامعة. ‏
محمد حسين، الذي أسمعُ عبر السطور صوتَه النبيل، عبارتَه الدائمة «الله يسعدك» كردٍّ على كلمة محبّةٍ ‏منّي، وأحياناً على كلمةٍ لئيمة، هو مَنِ استنهضني منذ أشهر من أعتى اكتئاب عرفتُه في حياتي، اكتئابٌ دام ‏عشرة أشهر حارقة خارقة. ثم وأنا أشعر بنوع من التعافي، نظرتُ إليه وقلتُ: لولاك لما خرجتُ منه سالماً.. ‏والآن أقول لك، كما قلتُ لصديقنا الحبيب قبيل زرع الكليَة: ستنهض، وسيكون الأمر ذكرى، فالحياةُ ‏مطهرٌ وفردوسٌ وجحيم- كوميديا إلهية تراجي-كوميدية، وسأضيف: لديك عشرون عاماً أخرى تعيشها، ‏ألتمسُ منك، ومن صديقنا الدكتور الجميل الحاضر هنا، «أنّو لا «تتخِّنوها» وتطمعوا بالمزيد، فأنا باقٍ من ‏أجلكما، وبعد ذلك لن يستطيعَ ابنُ الخسارات، أنا، الانتظار. ‏
الله، بكلّ نبله وضلالاته، معكَ، إنساناً وكاتباً وصديقاً، معك لأنك لنا، وهو يعلمُ أننا خلقناه من ‏نطفة أرواحنا وليس من قيء غرائزنا- يرانا ويسمعنا.. أحياناً!‏

خيط دم
يفتتح محمد حسين رواية «العتق» بمشهد «محمد المعمَّد بدمه» حين كان يقاتل مع أحد التنظيمات المؤيدة للدولة السورية، ليلتقي في المشفى بدم الآخر؛ الفنان التشكيلي الذي تحول مهرّب أسلحة لمصلحة تنظيمات معادية للدولة السورية، لكن سيارته تتعرض للاستهداف بصاروخ حراري فيصل إلى المشفى محترقاً، وقد احترق معه كل ما كان يعتقد أنه جمال وفن فيما مضى. ليستكمل الكاتب بعدها ما بدأه في «الوحل»، في تتبع خيط الدم الذي يرسم حدود الدول، ومصائر الناس فيجمعهم ويقسمهم إخوة أو أعداء، أو إخوة أعداء على ضفاف مساره.
من مرسين، حيث يغادر «علي اليتيم» و«هيفاء» لواء إسكندرون، بعد سلخه بتواطؤ تركي- فرنسي- دولي، إلى الساحل السوري، وبيروت، ودمشق، يروي الكاتب حكاية خط الدم وعلاقته بمصائر البشر والدول، ويقص حكايات الحب والحرب والخيبة والهجرة بريشة شاعر مهووس بعوالم جوانية عرفانية ممتلئة بالرؤى ورائحة البخور والعطر والشعر؛ رؤى لا تعبأ بالزمن المستقيم بل بالمعنى العميق والمكثف للزمن.
فإذا كان الزمن في «الوحل» يشبه الشجرة التي تدل عليها أغصانها وثمارها، فإن الزمن في «العتق» هو زمن عنكبوتي متصل منفصل في آن، فكل الشخصيات تطل على بعضها.
في «العتق» كل الشخصيات تتوق إلى الانعتاق والتحرر، لكنها كلها مشدودة إلى الماضي بخيط الدم، عاجزة عن مغادرة القاع وبعيدة عن ولوج المستقبل، لذا تبقى تراوح في حاضرها وتكرر خيباتها في محاكاة فانتازية لمفهوم «العود الأبدي».
ربما كانت اللغة الشعرية، وتوظيفها فنياً إلى جانب الأشعار الصوفية والعامية في الرواية، هو التحدي الذي اختاره الكاتب، وهو ربما اختار الأسلوب الأصعب، ونجح في استخدام أدواته في مقاربة شخوص روايته ومصائرها في انتقالات زمانية قد تتعب القارئ الذي يجب أن يبقى متنبهاً يقظاً كي لا يقع في الخلط بين الحدث والزمان.
ومن قال: إن «العتق».. الحرية يمكن أن تأتي بشكل مجاني من دون تعب ومعاناة وتيقظ دائم؟

صوت روائي مبدع
يقدم محمد حسين سيرة وطن مظفرة بسيرة إنسانية في كلتا السيرتين، قدم في الوحل وتابع في العتق حكاية هاتين السيرتين على نحو غير مباشر وينأى بنفسه عن الدعاوى والهتاف والانتصار لطرف ضد طرف آخر.
مرحى له إذ كتب هاتين الروايتين ليقول بصوت عال إما أن نكون شهود عدل على الحقيقة، وإما نرتضي لأنفسنا أن نكون شهود زور، وارتضى محمد لنفسه شهود العدل فكتب هاتين الروايتين ليقول للأجيال اللاحقة إن لم يرتق الوعي الجمعي في هذا الوطن الطعين المذبوح من الوريد إلى الوريد فسينتصر للدم ضد السيف، فلا بد أنه سيكون محكوماً بحروب جديدة يتناسل بعضها من بعضها الآخر، هاتان الروايتان دعوة غير مباشرة للأجيال اللاحقة كي تتعظ فتنسى ذلك الجرح الذي بدأ منذ حمل رأس الحسين من كربلاء إلى الشام، أما بعد العتق التي يوقعها محمد حسين رواية تستوفي لنفسها مجمل عناصر الإبداع الروائي، بل إنه يباغت قارئه الذي لا يعرفه أن هذا العمل السردي هو عمله البكر في حقل الكتابة الروائية، لأن القارئ سيعتقد وهو يفرغ من قراءة هذه الرواية أن ثمة تجربة مديدة لمحمد حسين في حقل الكتابة الروائية، فالشخصيات والأحداث يتضافر بعضها إلى جانب بعضها الآخر على نحو شديد من التماسك، بل شديد البراعة فيما يعني الفن الروائي.
ما الذي يمكن أن يقال عن رواية محمد حسين العتق التي تستكمل محكيات الجزء الأول الوحل، الشخصيات نفسها التي قدمتها الوحل تظهر أيضاً في الجزء الثاني إضافة إلى شخصيات أخرى، هذه الشخصيات السابقة واللاحقة تضع القارئ أمام إرباك كبير في إمساك مفاتيح الرواية حتى ليتساءل القارئ أين الحكاية المركزية كما توارد السرد الروائي في الرواية في رواية العتق، ليس هناك رواية مركزية على الرغم أن محمد حسين يريد أن يوهمنا أن العتق تتابع حكاية علي اليتيم الوسوف أو عمر غونيه باشا، لكن الحقيقة أن العتق ليست حكاية علي وحده، الرواية هي حكايات يستجمع الروائي بعضها إلى جانب بعض مجموعة حكايات يستجمع جدائلها محمد حسين بعضها إلى جانب بعض، لينسج لنا عملاً لعل أهم ما يميزه أنه يحرض القارئ على إعادة تركيب هذه الحكايات داخل الرواية ولاسيما أنه يكسر ببراعة فائقة المنطق الخطي للزمن، بل يقوضه تماماً عبر إنتاجه محكياً موزعاً على وحدات سردية لاهث بعضها وراء بعضها الآخر لكأن محمد حسين الشاعر سابقاً لم يستطع التخلص من محمده الشاعر، ولذلك تبدو هذه الوحدات السردية كل وحدة على سردية أشبه ما تكون بقصيدة مستقلة بنفسها لكنها قصيدة مبتورة الطرف إن لم تستجمع بجسدها طرفها الآخر، أعني الوحدة السردية اللاحقة.
لذلك لا نجد مفردات الواقع بوصفها جمادات، فلا القبو الذي يمضي إليه محمد قبو ولا الصندوق يبدو صندوقاً بالواقع بالروايتين، المفردات الواقعية تتجسد بوصفها ذواتاً إنسانية مترفة بإنسانيتها وعابقة برهافتها الإنسانية، ولعل ذلك ما يفسر كثرة ما يصطلح عليه بالنقد «بالمتناصات» في هذه الرواية من الحلاج إلى ناظم حكمت إلى جبران خليل جبران إلى فيروز إلى سوى ذلك مما يضمنه محمد من بيانات سياسية تتحدث عن فترة الخمسينيات والأربعينيات وما بعد من تاريخ سورية، ويوظفها على نحو شديد المهارة إذ لا تبدو داخل النص، كما نجد في كثير من الروايات وصفها ملصقات أو كولاجاً كما يصطلح على ذلك داخل النص الروائي هذه المتناصات تبدو منبثقة من جسد السرد بل من رحم السرد على نحو واضح وموظف وتقوم بأداء مهمة داخل الحكاية من جهة ثانية، ثمة الكثير مما كتبته ومما سيظهر في كتابي سرديات الجحيم السوري الحرب في الرواية السورية أحتفظ به للقراءة، لأنني لا أريد أن أدفع بكل ما كتبته عن روايتي محمد حسين اليوم. وأخيراً ختم قائلاً: اليوم نحتفل بولادة صوت روائي مبدع يستحق التصفيق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن