لم يخفِ الرئيس الأميركي دونالد ترامب سبب بقاء قوات بلاده الاحتلالية في الشمال الشرقي من الجغرافية السورية، بل جاهر بها في أكثر من مناسبة دبلوماسية وإعلامية كان أبرزها تصريحه بالقول: «نحن نحتفظ بالنفط، لدينا النفط، النفط آمن، لقد تركنا القوات هناك فقط مقابل النفط»، رغم إعلان رغبته بالانسحاب منها في وقت سابق.
الأمر الذي يضعنا أمام سؤال بشقين: مَنْ احتوى من؟ هل إبقاء القوات الأميركية جاء برغبة ترامب الذاتية وتراجع عن قراره بشكل ذاتي؟ أو من خلال احتواء ممثلي مؤسسات الدولة العميقة واللوبيات الضاغطة، الذين كانوا يعرفون كيفية التأثير على عقلية «الدبلوماسي التاجر» انطلاقاً من إغرائه بالاستيلاء على النفط السوري لكيلا ينسحب، ويحققون هدفهم بعدم ترك زمام المبادرة لروسيا التي تعتبر أن هدفها الإستراتيجي الأول سياسياً في سورية هو إخراج الأميركي بما يشكله ذلك من فرصة لتعبيد الطريق لاحتواء التركي وتسريع حل الأزمة السورية بعد ذلك.
الوقائع والمؤشرات كافة تميل نحو أرجحية كفة الشق الثاني من السؤال، مع توافر معطيات تؤكد أن ترامب يتعامل مع القضايا الخارجية ويحدد معالم سياسة بلاده الخارجية وفقاً للمصالح الاقتصادية، وفق التالي:
1- التناقض الواضح والصريح في تصريح المسؤولين الأميركيين وترامب، فالأخير يعبر عن توجهاته بصراحة ودون دبلوماسية بأنه يريد النفط السوري، وهذا قد يكون مجرد بداية لما هو أكثر من الناحية الاقتصادية للمرحلة القادمة لسورية وخاصة فترة إعادة الإعمار، في حين أن صقور الإدارة العسكرية وفي مقدمتهم وزير الدفاع مارك إسبر يتحدثون عن خطة أميركية تتضمن ترك نحو 500 إلى 600 عسكري في سورية بالتعاون مع ميليشيات «قسد» مهمتهم منع داعش من السيطرة على حقول النفط في المنطقة الشرقية، وهذا التناقض له بعدان، الأول: التناقض بين دوافع ترامب الشخصية بالاستفادة من نهب الثروات الاقتصادية للاستفادة بها من الناحية الانتخابية وهذا ما دفع مرشح الحزب الجمهوري جون بايدن لاتهام ترامب بأنه يغلّب مصالحه الشخصية على المصالح الوطنية الأميركية، وبين دوافع ممثلي مؤسسات الدولة العميقة الذين يسعون لإعادة قوات بلادهم في سورية والمنطقة لإدارة صراع النفوذ مع روسيا والصين وإيران، أما البعد الثاني فإنه يتمثل بحرمان الدولة السورية من ثرواتها الاقتصادية للضغط عليها لتحقيق أهداف اقتصادية وفي ذات الوقت إبقاء شعرة معاوية مع قسد لعدم انزياحها الكامل نحو دمشق.
2- دور السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام في احتواء قرار ترامب بالانسحاب وإثارة لعابه الاقتصادي، من خلال سعي غراهام للتفاوض مع عدة شركات أميركية ومحاولة إقناعها رغم الكثير من الصعوبات للمجيء إلى سورية وبناء بنية تحتية نفطية جديدة، بما يسمح باستخراج واستثمار الطاقة القصوى للآبار النفطية التي تتراوح في بعض التقديرات الأميركية بين 400 إلى 460 ألف برميل يومياً وباحتياطي يتجاوز 45 مليار برميل، في مقدمتها شركة«Global Development Corporation» ويملكها رجل الأعمال الإسرائيلي مردخاي خانا، رغم تأكيدات غراهام ذاته بأن الوضع الحالي «غير مستدام» إلا في حالة حصول استقرار في شمال شرق سورية يعتمد على اتفاق تركي كردي لوضع حد نهائي بالقرب من الحدود يمكن للجانبين التعايش معه وفق زعمه، وهو ما يسعى إليه غراهام مع عراب العلاقات الأميركية التركية والمبعوث الأميركي لسورية جيمس جيفري.
3- رغبة الرئيس الأميركي باستقطاب الجميع لدعمه في الانتخابات الرئاسية القادمة أو على الأقل التخفيف من ضغطهم عليه، فهو استثمر إعلان انسحابه ضمن خانة حماية أرواح الجنود الأميركيين وإعادة جزء لبلادهم أحياء وعدم خوض حروب جديدة ترجمة لتنفيذ تعهداته الانتخابية السابقة ولكسب أصوات الناخبين للتمديد له، وهو في ذات الوقت يبقي جنوداً في المناطق الغنية بالنفط السوري ليدغدغ جزءاً من تطلعات الشعب الأميركي بزيادة معدلات دخله وزيادة فرص العمل، على غرار ملفات الابتزاز الاقتصادي في الملفات وعلاقات أميركا الترامبية بالدول الأخرى، سواء بالإيرادات التي تجنيها أميركا من إرسال المزيد من القوات لدول الخليج وخاصة السعودية أو ببيع المزيد من صفقات السلاح والتي تجاوزت 2 تريليون دولار منذ تولي ترامب سدة الحكم بحجة فزاعة إيران ومواجهتها، أو بفرض الحماية مقابل زيادة الأتاوات المالية وتمثل ذلك مؤخراً بمطالبة اليابان بزيادة من 2 إلى 8 مليارات دولار، أي أربعة أضعاف ما كانت تدفعه سابقاً لإبقاء الحماية الأميركية، ومطالبته كوريا الجنوبية بـ5 مليارات دولار سنوياً لحمايتها من جارتها الشمالية، والضغط على دول الناتو بزيادة مدفوعاتهم 4 بالمئة وإلا فإن واشنطن التي تعتبر الدولة الأكثر مساهمة تاريخياً في نفقات الحلف إذ تزيد مساهمتها عن 700 مليار دولار ستوقف المساهمة أو تقللها للنصف، الأمر الذي دفع الأوروبيين لبدء البحث الجدي عن خيارات بديلة، مثل التقارب مع روسيا أو التفكير بإنشاء جيش أوروبي موحد، فضلاً عن زيادة ضرائب مستوردات أميركا من أوروبا والصين بطرق ووسائل غير مشروعة، حققت نمواً يفوق 3 بالمئة للاقتصاد الأميركي في عهد ترامب، حتى إن إدارة البيت الأبيض توقعت الحفاظ على هذا النمو تقريباً في عام 2020.
4- الجانب الاقتصادي اللافت في الاجتماع الأخير الذي جمع ترامب بنظيره رئيس النظام التركي، فرغم العقوبات الاقتصادية الأميركية وإدانة مجازر الأرمن والإهانة غير الدبلوماسية التي وجهها ترامب لأردوغان ووصفه بـ«الأحمق» إلا أنه عاد ووصفه «بالعظيم» مراراً وتكراراً، في دلالة على اهتمام ترامب بالعلاقات التجارية بين البلدين خلال المرحلة القادمة فضلاً عن الشراكة الأطلسية بما تدعمه داخلياً على صعيد الانتخابات، وهذا برز في وعد ترامب بزيادة العلاقات التجارية بين البلدين من 20 ملياراً إلى 100 مليار دولار خلال السنوات القادمة، دون تحديد عدد السنوات، وهو ذات الرقم التي تبتغي روسيا الوصول إليه في علاقتها التجارية مع تركيا، وبالتالي كان واضحاً أن توقيت الاجتماع واستقبال ترامب لأردوغان كانا يتضمنان جزءاً مهماً منه الأهداف الاقتصادية التالية:
– زيادة مدخولات أميركا من خلال بيع الأسلحة عبر رفع الفيتو أو التخلي عن منع تسليم طائرات «إف35» لتركيا لكيلا تلجأ الأخيرة للصناعة الروسية في شراء «سوخوي57» وبما يحرم الاقتصاد الأميركي عقداً بقيمة مليارين ونصف المليار دولار، مقابل طلب أميركي لتركيا بإبقاء منظومة «إس400» في الصناديق حتى انتهاء الانتخابات الأميركية، أو نصبها بالقرب من الحدود مع روسيا وإيران أي بعيدة عن قواعد الناتو في الشرق الأوروبي.
– الطلب من تركيا أن تكون المنفذ لتصدير النفط السوري المسروق عبر ميناء جيهان التركي، مقابل تقديم وعود بأن تحصل تركيا على نسبة ترانزيت وأن تقدم لبعض العشائر العربية قسماً من النفط بما يلبي حاجتها بسعر 10 دولارات للبرميل مقابل إبقاء وجودها ودعمها لـ«قسد»، وهذا ما ألمح إليه أردوغان منذ يومين بأن بعض الدول عرضت عليه تقاسم النفط السوري.
– استثمار ملف عناصر تنظيم داعش المحتجزين لدى تركيا وأميركا و«قسد» للضغط على الأوروبيين وابتزازهم، الأمر الذي أوقع الأوروبيين بين خيارين: الأول استرجاعهم وهو قد يزيد منسوب الخطر الأمني لديهم والحاجة للتعاون مع واشنطن وهذا له ثمن تبتغيه الأخيرة، والثاني تقديم الأموال للتركي ولـ«قسد» لإبقائهم ومحاكمتهم في المنطقة عبر محاكم دولية بإشراف أميركي وهذا له ثمن آخر أيضاً.
بات من المسلمات أن ترامب يعبر عن الوجه الحقيقي للسلوك السياسي الخارجي الأميركي وعن قناع أميركا الابتزازي دون خجل أو احترام للقوانين الدولية، وهو يتعامل مع دول العالم أجمع على أنهم مجرد مؤسسات لديه وهو مديرها التنفيذي، ولكن هل هذا السلوك من شأنه أن يحافظ على النمو والهيمنة الاقتصادية في ظل لجوء دول العالم وتكتلاتها نحو تنويع سلة العملات الأخرى؟ ووجود أسواق أسلحة أثبتت قدرتها وتفوقها وبأسعار أقل كالروسية؟ وهل رسالة الرئيس بشار الأسد الثلاثية في أقل من نصف شهر حول خيار المقاومة الشعبية لاسترداد الحقوق قد وصلت لخلد ترامب الاقتصادي؟ أم إن طمعه سيعمي بصيرته حتى يراق الدم الأميركي ويصل تأثيره للصندوق الانتخابي؟