يبدو واضحاً من خلال مراقبة ورصد ما يجري في العالم من حراكات في الشارع أن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية هي العنوان الأبرز لما يحدث، وهو أمر يحتاج منا إلى الكثير من التمحيص والتدقيق في الأسباب الحقيقية والدوافع الخفية، وخاصة أننا في سورية جزء من هذا العالم نؤثّر ونتأثر، ولا يمكننا الحديث عن بلدنا من دون رؤية بانورامية للأحداث العالمية.
هنا دعوني أركز على بعض النقاط المهمة السريعة التي تسمح بها المساحة المخصصة لمقال اليوم:
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أعلن المفكر الأميركي الياباني الأصل فرنسيس فوكو ياما عن نهاية التاريخ، وانتصار النظام الرأسمالي انتصاراً نهائياً حسب زعمه، أي أنه سوق حرة، وديمقراطية ليبرالية على النمط الغربي.
انتقلت الولايات المتحدة بعدها إلى مرحلة الغزو المباشر للدول، واحتلالها من أجل السيطرة على المواقع الجيوسياسية الحساسة من ناحية، وكذلك على مصادر الثروات في العالم كغزو أفغانستان واحتلال العراق وتفكيك دول المعسكر الاشتراكي سابقاً وتوسيع الناتو شرقاً وتطويق روسيا والمساكنة مع الصين الخ.
في الوقت الذي غرقت الولايات المتحدة الأميركية في حروبها التي توجهها وتستفيد منها كبريات الشركات والبنوك، كان منافسو أميركا، الصين بشكل أساسي وروسيا، وقوى إقليمية أخرى مثل إيران، يعملون على بناء قدراتهم الذاتية وعلى تجميع أوراق القوة بأيديهم انتظاراً ليوم قد تكون فيه المواجهة قادمة لا محال.
كشفت الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي عرفت باسم «أزمة الرهن العقاري» عن مرض بنيوي في النظام الرأسمالي العالمي ومركزه في أميركا، وتجلى هذا المرض البنيوي الذي لم يكن عابراً، في ثلاثة مؤشرات خطرة:
– تمركز السلطة والثروة في أيدي قلة قليلة، سموها «جماعة الـ1 بالمئة».
– تحالف النظام السياسي وأصحاب الرأسمال في البنوك والشركات.
– السيطرة المطلقة على الإعلام بشكليه التقليدي والجديد.
انعكس هذا المرض البنيوي، أو الأزمة البنيوية على حراكات بدأت تظهر في المجتمعات الغربية مثل «حركة وول ستريت» في أميركا، وحراكات أخرى في بريطانيا، وفرنسا حالياً، وغيرها من الدول الأوروبية، والسبب في ذلك أن النظام الديمقراطي الذي أنتجه النظام الرأسمالي في القرن الماضي، والذي كان يعمل على تمثيل الشريحة الكبرى في المجتمعات الغربية، قد تم اختطافه من الأقلية الرأسمالية المهيمنة التي بدأت تنتج زعامات سياسية تمثل مصالحها، ولا تمثل مصالح أغلبية الشعب.
والطريف في الأمر أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أعطى عام 2008 مبلغ 700 مليار دولار للشركات والبنوك الكبرى التي تسببت في الأزمة المالية العالمية، على حين أميركا فيها 40-50 مليوناً تحت خط الفقر، وهناك ملايين محرومون من التأمين الصحي، والرعاية الاجتماعية.
نقلت العولمة أزمات النظام الرأسمالي العالمي إلى الدول الأخرى التي طبقت برامج اقتصادية واجتماعية وفقاً لوصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وخاصة ما يتعلق بسياسات رفع الدعم وتقليص السياسات الاجتماعية التي تخص الفقراء مثل التعليم والصحة، الأمر الذي أدى إلى اهتزازات عالمية في كثير من دول العالم، وهو ما نراه من أميركا اللاتينية حتى المشرق العربي، وبالتدقيق نجد أن عناوين الحراكات وشعاراتها الأساسية هي التعليم والصحة، علماً أن الكثير من الدول أدرجتها في برامجها، بناءً على إرادة المركز الرأسمالي العالمي وأذرعه التنفيذية.
اعتبر الماركسيون والعديد من الأحزاب التقدمية منذ ثلاثينيات القرن الماضي أن النظام الرأسمالي سوف ينتهي إلى مزبلة التاريخ، ولكن هذا النظام كان يتجاوز أزماته في كل مرة من خلال الحروب والنهب المنظم لمقدرات الشعوب الأخرى، ولكن وفقاً للكثير من الخبراء والدراسات، فإنه يواجه الآن أزمة بنيوية حقيقية ليست عابرة، وهو ما قد يفسر شراسة ووحشية هذا النظام الرأسمالي وأدواته في هذه المرحلة من خلال استخدام كل أدوات الضغط الاقتصادي والحصار المالي والحروب البديلة كما في سورية أنموذجاً، وإيران وروسيا والصين وفنزويلا وبوليفيا… الخ.
السؤال الأخير الذي يُطرح: هل تشكّل وعي عالمي أكبر لمخاطر استمرار هذا النمط الرأسمالي وتغوله ووحشيته والمتمثل بالسياسات الأميركية المتبعة عبر نظام العقوبات وقلب الأنظمة، والإطاحة بكل من بدأ يعي مخاطر هذه السياسات الأميركية؟ والذي بدأ أيضاً يجد خيارات أخرى في العالم مثل الصين التي تطبق نمطاً رأسمالياً اقتصادياً، ولكن له أبعاد اجتماعية تهتم بالفقراء.
إن الصين، حسب إحصاءاتها، وظفت فائض الرأسمال والإنتاج لرفع 400 مليون صيني من خط الفقر، إضافة إلى سياساتها ومشاريعها ومنها «الحزام والطريق» التي وجد فيها الكثير من دول العالم خياراً مقبولاً ومفيداً، ويحقق مصالحها على مبدأ «رابح رابح» الصيني، وليس «رابح خاسر أو تابع» الأميركي الذي توحش في التعامل مع كل دول العالم.
إن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، ومكاسبها التي حققتها كثرة من شعوب العالم، ومنها الشعب السوري الذي على الرغم من وحشية وفاشية الحرب التي تشن عليه منذ تسع سنوات، ظلّ متمسكاً بهذه المكاسب التي نتجت عنه نضالات طويلة، وسياسات اقتصادية واجتماعية اهتمت بشؤون الطبقة الوسطى والفقراء، ولكن التحديات التي نشأت بعد هذه الحرب، والظروف التي نمر بها تطرح سؤالاً: أي نمط اقتصادي اجتماعي نحتاج، وأي إجراءات يجب أن نتخذها الآن في ضوء ما يشهده بلدنا؟
الحقيقة، إنني أرى أن هناك سوء أداء وتخبطاً في البعد الاقتصادي، وهو ما يدل على عدم نضوج وفهم، وعلى تغول الفاسدين والانتهازيين الذين يجب أن نقتنع بأنهم مستعدون لبيعنا في أي لحظة، وهو ما يتطلب منا الآن التعاطي السريع مع أزماتنا، وإيجاد حلول مؤقتة تساعد أبناء شعبنا في تجاوز هذه المرحلة الصعبة، وهو أمر ليس بالصعب لشعب هزم مشروعاً عالمياً، لكن نحتاج لرجال دولة يؤمنون بشعبهم وقائدهم، وصادقون أوفياء، وليس لانتهازيين أو فاشلين يبحثون عن اقتناص الفرص، والجلوس على الكراسي، فالأمر أكثر من عاجل في ضوء الظروف الداخلية والإقليمية والدولية.