سرعان ما تحولت المطالب الخدمية والمعيشية للمتظاهرين في مختلف المدن العراقية باتجاه أكثر القضايا السياسية سخونة في العراق، على حين بات يعدّ اليوم أحد الأسباب الرئيسة التي أوصلت الأوضاع في العراق إلى ما هي عليه، هو الدستور العراقي. ما فتح المجال للحديث عن ضرورة تعديل الدستور الذي كان قد جرى التصويت الشعبي عليه بنسبة 78,4 بالمئة، بعد نحو عامين من احتلال الولايات المتحدة وحلفائها العراق في الـ9 من نيسان 2003، وإسقاطهم نظام صدام حسين الذي حكم العراق منذ العام 1968 بقوانين وقرارات «مجلس قيادة الثورة»!
الدستور العراقي الجديد كُتب تحت العين الأميركية برعاية السفير الأميركي في بغداد حينها زلماي خليل زاده، بعد أن نجح الدبلوماسي الأميركي بول بريمر الذي كان يرأس شركة استشارية للأزمات عائدة لـ«شركة مارش وماكلينان» قبل أن يصبح الحاكم المدني الأميركي للعراق، في تمرير قانون «إدارة الدولة المؤقت للفترة الانتقالية» في الـ8 من آذار 2004 الذي مثل بداية المحاصصة الطائفية تحت يافطة «التوافق الوطني»، والذي أخذت مواد الدستور الجديد منه بكل مضامينها الملتبسة التي يُمكن اعتبارها ألغاماً وأفخاخاً قابلة للانفجار بحسب الظرف والمكان والزمان.
على وقع التظاهرات، شهدت الساحة السياسية العراقية واللجنة التي شكلها المجلس النيابي في الـ3 من تشرين الثاني الجاري المكلفة باقتراح التعديلات الدستورية خلال مدةٍ لا تتجاوز أربعة أشهر، شهدت خلافات عميقة في وجهات النظر بشأن المادة الدستورية التي سيتم الاعتماد عليها لتعديل الدستور، إن كان وفق المادة 142 من الدستور، التي تشترط موافقة أغلبية أعضاء المجلس النيابي على أي تعديل دستوري قبل عرض هذه التعديلات للاستفتاء الشعبي، بموافقة أغلبية المصوتين، وبشرط ألا تُرفض هذه التعديلات من قبل ثلثي المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر، أم وفق المادة 126 من الدستور التي تتيح لخُمس أعضاء المجلس النيابي أو رئيسي الجمهورية والوزراء مجتمعين طلب تعديل الدستور، على أن يتم بعد ذلك عرض التعديلات على المجلس النيابي للتصويت عليها ومن ثم إخضاعها للاستفتاء الشعبي الذي لم يحدد نسبة التصويت الشعبي المطلوبة عليه، فيما جاء في، رابعاً من المادة 126: أنه «لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور، من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلةً ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاءٍ عام».
الأحزاب السياسية الكردية في إقليم كردستان، وبالرغم من الاختلافات فيما بينها، توحدت في لقاءاتها وبياناتها وتصريحاتها في رفض أي تعديل يمس مكتسبات إقليم كردستان في الدستور العراقي، حيث باتت كل الإجراءات التي كانت قد اتخذت، فضلاً عن الفقرات الدستورية التي هي في صالح الأكراد مهددة بالانهيار. ما يعني أنهم سيرفضون أية تعديلات على الدستور تقلل من السلطات التي يمتلكونها في مجالات استخراج النفط وتسويقه والمنافذ الحدودية والرسوم والجمارك والعلاقات الدولية، وسيسقطونها باستخدام ألغام زلماي خليل زاده وبول بريمر الموضوعة في الدستور، وأسهلها رفض ثلاث محافظات من محافظات الإقليم وهي أربيل، دهوك، السليمانية، حلبجة هذه التعديلات.
ممثلية الأمم المتحدة في العراق التي كانت قد طبعت خمسة ملايين نسخة من الدستور الذي سلم إليها 3 ملايين باللغة العربية و2 مليون باللغة الكردية، والذي وزع على العراقيين مع الحصة التموينية الشهرية، وجرى الاستفتاء الشعبي عليه في الـ15 من تشرين الأول 2005 ينتهي بالمادة 139، في حين أن المنشور في موقع المجلس النيابي الإلكتروني ينتهي بالمادة 144، والسؤال كيف أضيفت خمس مواد إلى الدستور العراقي من دون عرضها للاستفتاء الشعبي؟! وهل تعتبر شرعية؟ وما مصير المادة 140 المثيرة للجدل بشأن المناطق المتنازع عليها ومن ضمنها كركوك بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان؟
النائب يوسف الكلابي عضو لجنة تعديل الدستور أكد في برنامج «المناورة» الذي بثته «قناة السومرية» في الـ12 من تشرين الثاني الجاري، أنه لم يَعثر على أي ذكر للمواد من 140 إلى 144 في كل المجلدات الموثقة لجلسات مجلس النواب بهذا الشأن، كما أنه لم يجد التسجيل الفيديوي المتعلق بالتصويت على هذه المواد إن كان قد جرى!
ولعلي لا أجانب الحقيقة إذا قلتُ: إن صورة الدعوة لتعديل الدستور ملغومة وقاتمةٌ، ولا تُبشِّر بخيرٍ أبداً، إذ إن أي تعديل لا يقبل به الأكراد سوف يصوت ضده ثلثا سكان ثلاث محافظات كردية، والأمر نفسه بالنسبة للسنّة والشيعة، وبالتالي فإن أي تعديل يمس منافع أي مكون سياسي طائفي أو عرقي سيكون شبه مستحيل، لنبقى ندور في حلقة مفرغة، وفق ما زرعه زلماي وبريمر من ألغام وأفخاخ، وما يسعى لإدامته «طحنون» و«المنشار» وأصحابهم.