لم تظهر الأزمة السورية التي تؤكد أحداثها وسياقاتها أنها كانت الأهم مما اعترض المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، حدة في الاستقطاب الإقليمي والدولي كما هي أظهرته منذ منتصف أيلول الماضي فصاعداً انطلاقاً من التصعيد الحاصل في منطقة الشرق السوري وشماله، ففي خلال الشهرين الماضيين اللذين تلوا هذا التاريخ الأخير كان هناك اتفاق أنقرة الأميركي التركي في 7 من تشرين أول الماضي، ثم تلاه اتفاق سوتشي الروسي التركي في 22 من الشهر نفسه، وما بينهما كانت العملية العسكرية التركية المسماة «نبع السلام» التي جاءت بعد يومين من الاتفاق الأول.
الاتفاقان والعملية لم يكونا كافيين لرسم معادلات استقرار المنطقة الممتدة من عفرين في الغرب حتى المالكية في أقصى الشرق، ولم يكن مقدراً لذلك الثالوث أن يصبح قادرٱ على الفعل حتى ولو تلاه ثالوث مماثل على الرغم من ثقل القوى الفاعلة التي تمثل أطراف تلك الثواليث لاعتبارات عدة تصعب الإحاطة بكل معطياتها أبرزها هو أن خيارات الأطراف سابقة الذكر لم ترسو تماماً على مراسيها التي تراها مناسبة لمراكبها بل إن بعضها لم يقرر حتى اليوم رمي «الياطر» الذي يساعد السفينة عادة على الرسو.
إلا أن هذا السبب الأبرز ليس هو الوحيد ومن المؤكد أنه يعيش حالة تشاركية مع أسباب أخرى أبرزها خيارات دمشق، ثم زئبقية السياسات التي تعتمدها القيادات الكردية التي تبدو دائمة الاستعداد في كل لحظه لاجتراح مواقف أو سياسات تتناغم لحظيٱ بدورها مع كل تغريدة يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تويتر، وما لا يدركه هؤلاء كما يبدو أن هذا الـ«تويتر» هو أسوأ مدرسة يمكن أن تستقى منها فهم السياسة وتلوناتها، فالتغريدة عادة هي ردة فعل سريعة أو عفوية ترصد موقفٱ من حدث سياسي معين، إلا أن ذلك الموقف لا يعني بالضرورة أنه يرصد حالة نهائية من الحدث خصوصاً بالنسبة لدول كبرى تصنع فيها القرارات والسياسات عبر عملية شديدة التعقيد.
لم تؤد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للولايات المتحدة ولقاءه بنظيره الأميركي في 13 من الشهر الجاري إلى إنتاج معطيات جديدة، بل إن المعارضة التركية أكدت أن أردوغان عاد «خالي الوفاض» من تلك الزيارة، وأن هذا التوصيف الأخير قريب جداً إلى الدقة لأن بيان البيت الأبيض الذي صدر بعد دقائق من انتهاء اجتماع أردوغان بترامب كان قد أفاد أن كل المشاكل العالقة بين واشنطن وأنقرة يمكن تجاوزها مع استغناء هذي الأخيرة عن منظومة «إس 400» الروسية، والمؤكد أيضاً أن هذه الأزمة الثقيلة الوطأة على العلاقات الأميركية التركية لم تحل بشكل نهائي، وواشنطن الآن تراهن بعد وصول المنظومة إلى الأراضي التركية في تموز الماضي على منع وضعها قيد الخدمة أو على عدم تشغيلها المقرر في نيسان من العام المقبل وتلك نقطة ستظل محل رهان في التجاذبات لحين حدوث أو تأجيل أو حتى إلغاء الفعل، وذاك سيشكل ورقة تركية ضاغطة على كل من ضفتي موسكو وواشنطن على حد سواء.
أكثر ما يؤكد إخفاق أردوغان الأخير في واشنطن هو الهروب إلى فضاءات التجارة التي تقرر أن تزداد ما بين الطرفين إلى حدود 100 مليار دولار في غضون السنوات اللاحقة بعد أن كانت تقبع عند حدود 20 ملياراً، والراجح هو أن استقبال ترامب لأردوغان الذي جاء بعد مرور شهرين من رفضه للقائه على هامش اجتماعات الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي، يمكن وضعه في سياق احتياجات داخلية لكلا الاثنين، فترامب يريد أردوغان كورقة رابحة في حملته الانتخابية المتعثرة على وقع الضجيج الديمقراطي الساعي إلى عزله، أما أردوغان فهو يريد ترامب كرافعة تجارية تعيد إنتاج «اللاصق» الاقتصادي الذي نجح على امتداد عقد ونصف في تجميع ما لا يمكن تجميعه في الداخل التركي، وهو ما يمكن، فيما لو نجح، أن يؤدي إلى تهميش الدعوات لإجراء انتخابات مبكرة في تركيا تقول كثير من التقديرات إنها لن تكون في مصلحة أردوغان.
ما يهمنا من هذه السردية السابقة هو القول: إن التوافقات الأميركية التركية حول ملف الشرق السوري لم تعد قائمة بل إن اتفاق أنقرة المشار إليه أعلاه غير قابل للحياة إن لم تكن التطورات قد تجاوزته وهو ما تظهره عشرات التصريحات للمسؤولين الأتراك التي اتهموا فيها الأميركيين بالتملص من تطبيق الاتفاق، لكن الجديد في الأمر هو ضم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الروس أيضاً إلى حالة التملص سابقة الذكر، فجاويش أوغلو أعلن في 18 من الشهر الجاري أن روسيا «لم تف بتعهداتها» ثم مضى إلى التلويح بإمكان استئناف العمليات العسكرية في مناطق شرق الفرات، وعلى الرغم من البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع الروسية في اليوم التالي لتصريحات جاويش أوغلو واتسم بلهجة شديدة، سعت إلى نفي مزاعم هذا الأخير، إلا أن خيارات موسكو لمواجهة التهديدات التركية التي تبدو عملياً أنها ماضية نحو أن تصبح واقعاً لاعتبارات عديدة، تشي بأن عوامل المنع غير كافية لمنع وقوعها، بل الراجح أن ثمة ملمحاً خفياً تلمسه أنقرة جيداً يقول إن موسكو لا تملك «ثمن» إطفاء الحريق الوشيك الوقوع من جديد في الشرق لارتفاع تكاليفه التي تتمثل في خسائر روسية مؤكدة على صعيد «اللجنة الدستورية» واحتمال أن يؤدي إلى تصدع في مسارات أستانا وسوتشي التي تدرك موسكو جيداً تربص الغرب و«مجموعته المصغرة» بها.
وسط كل ذلك يبقى حلم الأكراد الانفصالي الذي لم ينتزع، على الرغم مما أصاب الجغرافيا من تهتك، من صدور القيادات الكردية بعد، هو الخنجر الذي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التشظيات والمخاطر، والخطير في الأمر هو أن الوهن الذي عاشه المشروع ما بعد العملية العسكرية التركية يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الانزلاقات والرهانات الخاطئة.
يقول وزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق ورئيس جمهورية جورجيا السابق أيضاً في عام 2013 ادوارد شيفارد نادزة: «أشعلت أصابعي للأميركيين، لعبت دوراً كبيراً في انهيار الاتحاد السوفييتي، وقدمت للأميركيين قاعدة عسكرية على الحدود الروسية، ومع ذلك خانوني، ولا أدري لماذا فعلوا ذلك»؟ والجواب على تساؤلات شيفارد نادزة قد لا تحتاج إلى كثير من الجهد أو العناء، فسياسات الدول لا تقوم على «رد الجميل» أو الوفاء لمن بادر إلى مراكمة المزيد من تلك الجمائل، وإنما ينظر إليها على أن القائم بالفعل قد بادر أولاً انطلاقاً من حساباته الشخصية وذاك هو ما دفعه للمبادرة، إلا أنه كان يجب أن يكون مدركاً أن لكل أجل كتاب، والأهم الآن هو ماذا يملك الأكراد ليقدموه للأميركيين قريب من الأثمان التي قدمها شيفارد نادزة الذي اشتكى من أن هؤلاء الأخيرين رموه كما محرمة «الكلينيكس» التي تستخدم لمرة واحدة؟