إذا حاولنا تحديد مصادر قوة وقدرات إسرائيل الشاملة في هذه الظروف بموجب استنادها إليها في المحافظة على احتلالها وبقائها ومدى القدرة على استخدامها لتنفيذ أهدافها التوسعية، فسوف نجدها بشكل موضوعي تتألف من المصادر التالية:
1- القوة المستمدة من الجيش والأسلحة 2- القوة المستمدة من قدرات حشد القوة البشرية للجيش والمجتمع 3- القوة المستمدة من القدرات الاقتصادية 4 – القوة المستمدة من التحالفات.
ولا شك أن هناك علاقات ديناميكية جدلية يتأثر فيها كل عامل من عوامل مصادر هذه القوة بالعوامل الأخرى وتحمل هذه العملية تأثيرها على مصدر قوة أخرى تعد نتاج انسجام وتوازن هذه المصادر الأربعة، وهي القوة المعنوية أو مقياس قوة الإرادة في تحمل مخاطر المشروع الصهيوني على حياة الإسرائيليين وما يفرضه من ثمن باهظ عليهم.
منذ بداية المشروع الصهيوني وقبل التصريح الشهير لبلفور عام 1917 التقى رئيس المنظمة الصهيونية في بريطانيا حاييم وايزمان في عام 1906 لأول مرة آرثر جميس بلفور حين كان في منصب رئيس حزب المحافظين وليس وزيراً، ويقول وايزمان نفسه في كتابه الذي أصدره عام 1949 باسم «التجربة والخطأ» بالإنكليزية، إن بلفور سأله: «هل هناك كثير من اليهود المستعدين لاستيطان فلسطين»؟ وكان هذا السؤال قد تزامن مع مرور ثلاثة أعوام على العرض البريطاني للحركة الصهيونية باستيطان أوغندا، فأجاب وايزمان: «امنحونا ثلاثين عاما وسوف نجمع مليوناً من هؤلاء اليهود» وهذا كان يعني أن الحركة الصهيونية لم تستطع التأكد من قدرتها على إقناع اليهود بفكرة «الاستيطان في فلسطين تلبية للمشروع الصهيوني»!
فموضوع الحشد اليهودي البشري شكل أهم مفصل إستراتيجي في المشروع الصهيوني منذ ذلك الوقت بسبب القلة المتدنية لليهود المقتنعين بالهجرة إلى فلسطين، وحين جرى الإعلان عن إسرائيل عام 1948 لم يزد عدد اليهود كثيراً على 650 ألفاً في فلسطين ولولا الحرب العالمية الثانية ونتائجها لما نجحت الحركة الصهيونية وعصاباتها بإجبار مئات الآلاف من اليهود خلال عدة أعوام 1945 – 1947 وحملهم بالقوة إلى فلسطين قبيل حرب عام 1948 وهذا ما جعل أول رئيس حكومة في تل أبيب ديفيد بن غوريون، يضع في أولوية جدول عمل الحكومة أهمية إستراتيجية لتهجير اليهود إلى فلسطين وقال: إن أي توقف أو تناقص فيها سيؤدي إلى ضعف يشل كل عوامل المحافظة على وجود إسرائيل والمشروع الصهيوني.
يبدو أن الظروف السلبية العسيرة التي يشهدها الكيان الإسرائيلي في هذه الأوقات في موضوع الحشد البشري اليهودي بدأت تدفع عدداً من المختصين والمؤسسات الصهيونية إلى دق ناقوس الخطر أكثر من أي وقت مضى، لأن تناقص الهجرة وانحسارها سيحملان مضاعفات في غاية السلبية على مجمل مصادر القوة الإسرائيلية في المنطقة.
في 12 تشرين الثاني الجاري نشر تسفيكا كلاين في مجلة «ماكور ريشون» أي «المصدر الأول»، بالعبرية تحليلا بعنوان «فقدنا في السنوات الماضية 600 ألف من اليهود في الولايات المتحدة»! ويستشهد في مقدمة تحليله بما حذر منه البروفيسور سيرجيو ديلا بارغولا الذي يعد أحد كبار الخبراء بديموغرافيا اليهود إذا استمر التناقص في الخزان البشري اليهودي خارج إسرائيل وداخلها، بالتالي فقد أكد بارغولا: «أننا نلاحظ قفزة سريعة ليهود أميركا خارج الانتماء لليهودية! وفي إثيوبيا لم يعد هناك يهودي واحد وفي فرنسا لا يريد اليهود هناك الهجرة إلى إسرائيل»، وتبين لبارغولا أن 600 ألف من يهود أميركيا أكدوا في إحصائية أنهم لا يعدون أنفسهم يهوداً وهكذا خسرت إسرائيل هذا العدد من المرشحين للهجرة على حين أن أغلبية من اليهود الأميركيين ما زالوا يتزوجون من غير اليهود وبهذا الشكل ينصهرون مع المجتمع الأميركي ولا يترعرع أبناؤهم على الانتماء لليهودية. وفي النهاية يقترح بارغولا إنشاء مركز أبحاث يهودي صهيوني لوضع الدراسات والأبحاث والاقتراحات للمعنيين في إسرائيل حول أفضل الطرق للمحافظة على الخزان البشري اليهودي وأهم تجمعاته في أميركا التي يوجد فيها حسب إحصاءاته لعام 2018 نحو 5.7 ملايين وفي فرنسا نصف مليون وفي ألمانيا 300 ألف بعد موجات الهجرة العكسية التي نفذها الإسرائيليون إلى ألمانيا في العقدين الماضيين وعادوا لأوطانهم التي جيء بهم منها.
أمام هذا النقص والضعف في أحد مصادر قوة إسرائيل ومحاولة التغلب عليه لا يمكن استبعاد أن تقوم أجهزة إسرائيل الإستخباراتية ومنظماتها السرية بالعمل على ترويج وجود معاداة لليهود في بلدان خزان القوة البشرية اليهودية بواسطة عمليات سرية تنفذها أجهزة الموساد في أماكن تجمع اليهود أو كنسهم ومؤسساتهم التجارية، وقد بدأت هذه العملية التمهيدية بحملة إعلامية منذ أشهر قليلة تحمل شعارات مثل «أوروبا كلها تعادي اليهود ولا خلاص لهم إلا في إسرائيل»! وشعار «يهود فرنسا والمعاداة الجديدة للاسامية» وهذا يعني أن مشروع حماية الاحتلال والمحافظة على إسرائيل يمر بأخطر أزمة في مواجهة كل من يقاومه في المنطقة.