يقف بين جنبات الدولة والحرب الظالمة التي وقعت عليها، هذا يتعلق بما يتسم به الكثير من الدول بعدم متابعة اكتمال بناء هياكلها، التي تظهرها في النتيجة بأنها حقيقة قائمة رغم توافر حدودها مساحةً وسكاناً وانتظاماً في سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وإداراتها، والمتطلع إليها يراها تعمل بشكل عام ضمن ظروف طبيعية، ومشهدها مقنع إلى حدٍّ كبير، وحينما تدخل إلى جوهرها تجد معاناتها أكبر، وخاصة في حل مهمة تجاوز التخلف الاجتماعي العلمي والاقتصادي، ومواجهة ذلك يعتبر من أولى المهام الوطنية التي تزيد تسريع التنمية في الاقتصاد والثقافة والتعليم وفرض الرقابة الفعالة على مواردها الطبيعية والاصطناعية وإعداد كوادرها وطنياً، وهذا ما ينشئ لها مشكلات جمة، لأن الهيكل التراكمي غير متجانس بسبب تشتّت قواه نتاج تسارع الأحداث وعدم تفاعل فعالياته الاجتماعية والاقتصادية مع اللغة الوطنية؛ أي وجود ضعف في مسار الوصول إلى إستراتيجية منشودة، والتكتيكات الفاعلة معها غير مترابطة.
واجهت دولتنا الوطنية في زمننا الحاضر العديد من المشكلات نتاج التفاتها لمهام وطنية تتجلى في عملية تسريع النمو الاقتصادي وتطوير الثقافة الراكدة واستثمار وإدارة الموارد الطبيعية وحمايتها من الاستغلال والأطماع، إضافة إلى سعيها لجمع القوى الاجتماعية المتنوعة في ثقافتها وعقائدها وجعلها مسهمة بفاعلية في إيجاد الحلول لقضايا تنمية المجتمع وطنياً واقتصادياً، وإيجاد وعي سياسي وطني، وتفعيل الثقة المضطربة بين الحكومة والمجتمع نتاج ظروف استثنائية، خلقت إرهاباً استثنائياً وأسقطته عليها، والبحث ضمن هذه الحالة الطارئة عن القدرات الخلاقة والتمسك بها.
كل هذا يفيد ويساعد في بناء الدولة وطنياً، لكنه يسبب كثيراً من المشكلات مع المحيط الطامع أو المتخلف، ويوجه أنظار المرتهنين والتبّع للضغط عليها، كي تكون مريدة لهم، حيث لا تستطيع هذه الدولة العاملة بهذا الأسلوب الانفلات من أعمال العدوان المباشر أو غير المباشر، عبر التحريض على الانقسام أو ضخ الإرهاب أو اللعب على الأفكار الدينية التي تقاوم العلمية والعلمانية، وكلما ظهرت توترات داخلية سهل دخول الأفكار التخريبية التي تعيد حال الدولة إلى نقطة البداية، وهذا ما تمارسه الدول الغربية عندما تنشأ لديها مشكلات اقتصادية، وتضطرب فيها سياساتها، أو يتطور صلفها كما هو الحال الآن مع السياسة الأمريكية التي أسفرت عن وجهها الاستعماري الحقيقي.
الدولة تحفّز مواطنيها، وكلما ظهرت الحوافز عظمت التحديات، لكونها ترتكز على أسس الوسطية الجامعة واللامعة بين جميع قواها وانتماءات أفرادها، وأن تكون وسطاً يعني أن تكون وسطياً يدور في فلكك الجميع، ومديراً مؤثراً كي يلتئم حولك الكل من أجل إنهاء التحديات ومعالجة الصعوبات وإزالة العقبات وخلق فرص عمل وإبداع، هذه التي ترافقها دائماً مخاطر قادمة من أعداء الخارج وأدواتهم في الداخل، وكلما انتصرت الدولة تطور الشرف الوطني عند مواطنيها، وتحولت إلى رمز وسيادة وفعل وقرار، ومعه ينضج الوعي بكامل مقتضياته التي تتمتع فكرياً بتنفيذ الواجبات، وترفع من شأن التربية والتعليم، وتأخذ الثقافة الجمالية موقعها الحقيقي، وبهذا الوعي الناضج تُحمى المكتسبات على المحاور كافة، وأهمها انتصارات الجيش في معاركه مع الإرهاب ودحر العدوان أياً كان شكله وتدخلاته.
لقد ضغط سواد العالم على دولتنا الوطنية، مستخدماً كل أنواع الشرّ من إرهابيين ومجرمين وخونة ومارقين وأدوات وتابعين، جلبوا لها الدمار والسلب والحرق والقتل، أرادوه في كل مكان، ومارسوا أبشع أنواع الحصار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأجزم أن ما جربوه من فنون لإخضاع هذه الدولة لم يجرِ في أي دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية، وتحولت هذه السنوات الممتلئة بالمآسي والمترافقة بالانتصارات التي أحرزها جيش هذه الدولة مع الوطنيين إلى دروس وعبر، تناقلتها الشعوب والأمم، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه، لأصل إلى أن ما سطّرته حواملها المؤسسة بشكل لا يمكن اختراقه يعتبر مفخرة لها ولثلاثية وحدتها الجيش والشعب والقائد، هذه الوحدة التي ليست فقط ستكون خالدة أو تخليداً لذكرى من ضحّى بحياته، أو قدّم أغلى ما لديه من أبطال الجيش العربي السوري وأبناء شعبه، الذين أنقذوا هذه الدولة، التي هي الوطن المحمول بين جنباتهم ومنبع شرفهم من طغيان الإرهاب وداعميه؛ ولأنها السلاح الفعّال في دحر أي عدوان، وفي الوقت ذاته عملت ضمن أقسى الظروف من أجل السلام والتقدم الوطني بمختلف أشكاله؛ اجتماعي، اقتصادي، سياسي، وبانتهاء دحر الإرهاب الذي بات أكثر من قريب، وفي العشر الأخير منه، أجد من الضروري اعتبار الحرب على اختلاف أهدافها من أشرّ اللعنات البشرية، على الرغم من أن قوانينها وضعية، وأحياناً منطقية، إلا أنها تتمايز كثيراً عن القوانين الحاكمة للبشر والفاصلة بينهم، فهي رزء الأمم، تجر وراءها كل بليّة تقوّض العمران، ومزرية بالإنسانية وقيمها، فالحرب والوباء والقحط والفساد، وكل ذلك مسؤول عنه الإنسان، الذي أقام العداء على الإنسان بالحسد والغيرة والشهوة والاغتصاب والاعتداء، وتكون داخلية في الأسرة الواحدة بين الإخوة والأهل والمجتمع، وبين الدول، تحكمها الأطماع وجنون العظمة والتوسعة أو الاستعمار، أو منع النمو والتطور، أو تعطيل التقدم وهدم روابط المجتمعات، فهي أي الحرب غير مشروعة، لأنها تتبع سياسة الأرض المحروقة، فتلغي بها لغة الحوار، لأن قامتها في الأساس قائمة على عناصر القوة والضغط، والحروب الداخلية أخطر وأفظع، لأنها تجعل الأخ يحمل السلاح في وجه أخيه، ونرى فيها الولد قاتلاً لأبيه أو أخيه.
منطقي جداً أن يكون للدول جيوش تذود بها عن حياضها، تتكوّن من أبنائها الذين تدربهم وتربّيهم على الأخلاق الحميدة وحب الوطن والدفاع عنه، وعن مكوناته ضد أي اعتداء خارجي، والذي لا يدرك ظروف وجودها ومهامها ومميزاتها وعلاقتها بما هو خارج عنها لا يقدر أن يصل إلى معرفة قوانينها الناظمة لها أو طرق إدارتها، وهي مسؤولة عن تسوية التناقضات في لحظات حاسمة من حرب قامت عبر كل حقب التاريخ، إلا في سبيل إنهاء الحروب، وهي تقع دائماً بين سلامين، سلام قبل الحرب، وسلام بعد الحرب، ونحن الآن في سورية نقف على الحدود الفاصلة، لأن نهاية الحرب الفاصلة باتت أكثر من مشاهدة، وإني أجزم أننا عشنا أطول الحروب وأقساها، وفي الوقت ذاته كانت بطولها وعرضها طريقاً لحماية الأرض والإنسان، وجسراً يوصل إلى رؤى جديدة، فجميع القوانين والنظريات الحربية هي في الأساس تعاميم لحروب ماضية، إن لم يؤخذ بها وتدرس بعناية تكن النتائج القائمة منها كارثية، وأيضاً علينا الإيمان بأننا لا نقدر أن نطلب من القائد كسب جميع الحروب، والتاريخ أمامنا، وعلينا قراءته بدقة، وإنما يحق لنا طلب الحكمة والشجاعة والربح، فهذا يؤدي إلى رفع المعنويات العامة والخاصة لجميع أفراد الوطن، جنداً كانوا أم مواطنين.
دولتنا وطن العروبة تحيا تحت مسماها الجمهورية العربية السورية بعلمها الوطني، الذي يمثل شرف كل مواطن، ومهما تعرضت لصعاب حركتها أيادي الغدر والعدوان من أجل إرهاب وجودها والنيل من وحدتها، فإنّ شرف أبنائها الخلّص- الذي يتكون من الإيمان بوجودها وصون وحدتها- كفيل بانتصارها، وخاصة أنها تتمتع بقائد مقدام في زمن عزّ فيه القادة، تمثّل الشرف الوطني، آخذاً على عاتقه دعم شعبه وجيشه بكل ما أوتي من قوة، وداعياً الوطنيين للكفاح ضد التخلف والمقاومة لكل عدوان، فأن نكون على شاكلته يعني أننا منتصرون لا محالة، وأيُّ تلكؤ يظهر أنّ خللاً ما أصاب هذا الشرف المهم، ولا ضير في الإسراع بعلاجه، وامتلاك علومه من الأهمية بمكان، فالشرف الوطني أخلاق إنسان ووطن.