أجريت آخر انتخابات فلسطينية في شهر كانون الثاني من العام 2006، كانت نتائج الانتخابات سابقة الذكر وفق ما أعلنها رئيس اللجنة حنا ناصر هو فوز حركة حماس بـ74 مقعداً من أصل 132 مقعداً يتألف منها المجلس التشريعي الفلسطيني، في حين فازت حركة فتح بـ45 مقعد، والباقي توازعته قوائم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة أبو علي مصطفى والبديل وفلسطين المستقلة والطريق الثالث.
آنذاك لم تنفع حملة التهدئة والتصريحات التي راح يطلقها مسؤولو حماس تجاه العلاقة مع الغرب وكذا مع إسرائيل في احتواء البركان الذي أظهرته نتائج الانتخابات سابقة الذكر، وبالنتيجة فإن حكومة حماس التي شكلها إسماعيل هنية في آذار 2006 قد أسقطت في مشهد تكرر مثيل له بعد عامين من فوزها عبر إسقاط يورغ هايدر زعيم حزب «الحرية» النمساوي الذي فاز بانتخابات العام 2008 بذريعة ميول هذا الأخير النازية، والغرب ارتأى في كلا الحالتين تهديداً للأمن والسلم في المناطق التي أوصلت صناديق اقتراعها كلاً من حماس وحزب الحرية إلى سدة السلطة.
ما يهمنا هنا هو السياقات التي شهدتها المرحلة التي سبقت وتلت تلك الانتخابات، فقد نشرت صحيفة «فانيتي فير» في العام 2008 وثائق سرية تؤكد تبني الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لمبادرة قامت بتنفيذها وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، وهي تقوم على إثارة حرب أهلية فلسطينية، فيما أجندتها تقوم على مد قوات محمد دحلان، الذي كانت تصفه واشنطن بـ«رجلنا» عندما يرد ذكره في وثائقها وتصريحات مسؤوليها، بالسلاح الكافي لإخراج حركة حماس من السلطة، أما وثائق ويكليكس فتفيد واحدة منها مؤرخة في 13 حزيران 2007 أن رئيس الأمن الداخلي الإسرائيلي «الشين بيت» يوفال ديسكين كان قد قال للسفير الأميركي في تل أبيب ريتشارد جونز: «لقد طلبت فتح من إسرائيل المساعدة في الهجوم على حماس»، والتاريخ الأخير شديد الأهمية لأنه يسبق بيوم واحد فقط سيطرة حماس على قطاع غزة، وفي ذاك قالت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية إن فتح دفعت مقاتلي حماس من غير قصد للقيام بما قاموا به في غزة، والمؤكد أن قرار الرئيس محمود عباس في 15 حزيران 2007 بتكليف سلام فياض لتشكيل حكومة جديدة تستثنى من صفوفها حركة حماس يمثل تزكية لكل التسريبات السابقة وهو يلقي بظلاله الثقيلة حول تفاهمات فتح مع الغرب التي عنت استقواء بالخارج في مواجهة هذي الأخيرة.
أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 7 من شهر تشرين الأول الماضي تكليف حنا ناصر البدء بإجراء الانتخابات التشريعية على أن يعقبها انتخابات رئاسية بعد بضعة أشهر، وفي 4 من الشهر الجاري كان مسؤول رفيع في حركة فتح لم تسمه الوكالة الفرنسية التي نقلت يؤكد وجود تقدم إيجابي في موقف حركة حماس والفصائل الفلسطينية العاملة في قطاع غزة تجاه الانتخابات المزمع إجراؤها.
السؤال الذي يجب أن يرد فوراً هنا هو ما هي الدوافع التي تكمن وراء دعوة عباس الأخيرة لإجراء الانتخابات في هذا التوقيت؟ وهل من بينها توقعات أو استطلاعات للرأي تفيد بحظوظ أكبر لفتح للفوز بها مع تسجيل نقطة مهمة هنا وهي أن تلك الاستطلاعات كانت قد أبدت نتائج خادعة عشية انتخابات 2006 والأكثر تفاؤلاً منها كان قد أعطى حماس حظوظاً تصل فقط إلى 25 بالمئة في تلك الانتخابات ففازت بـ44,4؟ أم إن السلطة الفلسطينية بوصفها حالة جامعة تريد تجميع ما يمكن تجميعه في لحظة تبدو التوازنات فيها شديدة الهشاشة في مواجهة تحديات مصيرية أبرزها «صفقة القرن» التي تأخر الإعلان عنها كما يبدو بفعل الأزمة السياسية التي تشهدها إسرائيل والتي ستفضي إلى إجراء انتخابات للمرة الثالثة في غضون أقل من عام؟
ما انفكت الأحداث الفلسطينية التي تلت توقيع اتفاق أوسلو في أيلول من العام 1993 تفعل فعلها فتفضي إلى مزيد من الانقسام والتشرذم، لكن تلك الحالة لم تكن هي وحدها الفاعلة في هذا السياق، وما يمكن تسجيله هنا هو أن الحسابات السياسية الخاصة بالمكونات الفلسطينية ومعها الارتباطات الإقليمية باتت طاغية على مواقف تلك المكونات، الأمر الذي أمكن لحظه جلياً في المواجهة الساخنة الحاصلة مؤخراً ما بين حركة الجهاد الإسلامي وبين سلطات الاحتلال والتي عمدت في خلالها حركة حماس إلى تحييد نفسها عنها لحسابات خاصة بها ما استدعى «مديحاً» إسرائيلياً لسلوكها ذاك، على الرغم من رحمية العلاقة التي تفترضها وحدة الأيدولوجيا الناشئة من مشرب واحد.
في مطلق الأحوال وأياً تكن الدوافع التي تكمن وراء دعوة عباس الأخيرة، فإن الحدث إيجابي وهو يصب في إطار توحيد الجبهة السياسية الداخلية في مواجهة التحديات التي تلوح من كل حدب وصوب، لكن العبرة بالنتائج، والإيجابية هنا يجب أن لا تلغي مخاوف يمكن أن تتولد بفعل هذي الأخيرة التي يمكن أن تفضي إليها، والسؤال المهم هنا: ماذا لو فازت حماس من جديد؟ وهل سيؤدي ذلك إلى تكرار سيناريو 2006-2007 الذي فيما لو تكرر فإنه سيكون أشد وطأة من سابقه على الداخل الفلسطيني؟ أم أن تلونات حماس المتعاقبة، وخصوصاً منها مواقفها «الحيادية» الأخيرة تجاه مواجهة الجهاد الإسلامي مع إسرائيل، كفيلة بنزع مخاوف الغرب وإسرائيل تجاهها والنظر إليها على أنها بلغت سن «الرشد» السياسي الذي بلغته فتح في أوسلو؟ ثم ماذا لو خسرت حماس؟ وهل ستقبل بخسارتها بعد أن فرض عليها انتزاع الفوز منها قبل ثلاثة عشر عاماً؟
ألم يكن من الأفضل على السلطة قبيل إجراء أي انتخابات الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني جامع تتحدد فيه الثوابت والرؤى الوطنية، كما وتتفق فيه كل المكونات المجتمعة على المصطلحات والمفاهيم والأفكار الناظمة لإدارة الصراع مع إسرائيل الذي سيحدد الوجود والبقاء؟ ومن ثم فلتجرِ أي انتخابات وفق أي قانون من القوانين التي جربت في السابق أو حتى تلك التي لم تجرب بعد.