الحديث لـ«باري ماتش» والعزاء في اسطنبول: عندما يتصارَع الميتون أخلاقياً
| فرنسا ـ فراس عزيز ديب
من الطبيعي أن تكونَ فكرةَ قيام صحيفةٍ أجنبية بإجراءِ حوارٍ مع الرئيس بشار الأسد تحتاجُ لتحديدِ مواعيدَ مسبقةٍ قد تصلُ فترة انتظارها لأشهر، لكن ما هو ليس طبيعياً أن يتصادفَ موعد نشر المقابلة للقارئ الفرنسي خاصةً والفرنكوفوني عامةً مع حدثينِ متكاملين، الأول هو سقوط ثلاثَة عشرَ قتيلاً فرنسياً من العسكريين والضباط الفرنسيين العاملين فيما يسمى منطقة الساحل الشرقي لإفريقيا، أما الثاني فهو الإهانة التي تعرَّضَ لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان بوصفهِ «ميِّت دماغيّاً».
في الحدثِ الأول فإن فرنسا لم تعرف سقوطَ عددٍ كهذا من القتلى العسكريين في وقتٍ واحد منذُ عقود، وإن كانت الرواية الرسمية الفرنسية ربطته بحادثِ تصادمٍ لمروحيتين ربما لقطع الشك باليقين عن إمكانيةِ حصول الإرهابيين هناكَ كما في الحالة السورية على صواريخَ مضادةٍ للطيران محمولة على الكتف، لكنها بذاتِ الوقت فتحت الباب حول تساؤلاتٍ منطقية كان يتساءلها المواطن الفرنسي أساساً منذ أن أعلن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند مطلعَ العام 2013 إرسال قوة فرنسية بذريعةِ محارب الإرهاب في مالي: لماذا نحن هناك؟
ربما سيطول انتظارَ الفرنسيين حتى يأتِيهم الجوابَ اليقين من سياسييهم، حتى فرانسوا هولاند نفسهِ خرج ببيانٍ من المفترضِ إنه لنعي من سماهم «الشجعان»، لكنه استغلَ الحدَث لتسويغِ احتلاله أراضي في تلك الدولة البائسة ودفاعهِ عن قرارِ إرسال الجنود إلى هناك رغم الكلفةِ الكبيرة للعملية بذريعةِ الوقوف بوجه الإرهاب، هل هي فعلاً كذلك أم إنها للسيطرة على الثروات التي تكتنزها تلكَ الصحراء؟
لكن يبدو أن كلام الرئيس بشار الأسد لمجلة «باري ماتش» الذي تزامنَ مع الحدث قدَّمَ الإجابةَ الوافية لكل الفرنسيين، تحديداً في خضم إجابتهِ عن الوجود الفرنسي في الشمال السوري بذريعةِ محاربة الإرهاب، حيث قال: «لا يكفي أن تكونَ لديكَ رغبة في مكافحةِ الإرهاب، هناك قواعد دولية لمكافحة الإرهاب.. الحكومة السورية كانت تحارب «داعش»، فلماذا لم يتم دعمها؟ ولماذا تحارِب الحكومة الفرنسية «داعش» وتدعم «النصرة»؟ وكلاهما إرهابي»!
ربما لم تكُن الصدمة لدى القارئ الفرنسي بقول الأمور كما هي وبِهذا التبسيط، الصدمة أنها أتت من رئيسٍ لم يوفِّر إعلامهم الرسمي أو «الخاص المتقطرِن» خلالَ سنوات ثمانٍ جهداً لتشويهِ صورتهِ بالطريقة التي ظنُّوها أكثرَ نجاعة، دعكم من كل الألفاظ أو الشتائم، هذه مردودة على أصحابها، بمعنى آخر: لم يكن غريباً أن يكون السؤال الأول للصحفي الفرنسي للرئيس بشار الأسد: «هل انتصرت»؟ لأنه أرادَ من هذا السؤال أن يُحاكي معرفةَ الشارعِ الفرنسي الذي تم تلقينهُ وعبرَ سنواتٍ أن الرئيس الأسد يخوضَ حربَ بقائهِ، وصراعه على الحكم، ليأتي الجواب من خارج المتوقع الذي كان باختصار: «هي ليست حربي، هي حرب وطنية.. حرب السوريين ضد الإرهاب».
من ناحيةٍ ثانية بدا واضحاً أن كلامَ الرئيس الأسد كانَ أشبهَ برسالةٍ أخلاقية لطمأنة الشعب الفرنسي، وهي مبنيةٌ بالأساس على فكرة ثابتة: الإرهاب ليسَ سلاحاً متنقلاً نستخدمهُ ضد بعضنا!
أظهرَ الرئيس الأسد الفرق بين من يتاجِر بدماءِ الأبرياء وبين من لا فرقَ لديهِ في الضحيةِ التي تسقط في باريس أو موسكو أو دمشق، نتحدث هنا عن الانتماء الأخلاقي للمبادئ الإنسانية التي يذكرنا بها ذاكَ الغرب القميء من بابِ المتاجرة، فهوَ لم يقل للأوربيين لدينا إرهابيون من جنسياتكم عليكم استعادتهم أو سنرسلهم إليكم، لم يتاجر بالرعب ليخلق حالةَ ضغطٍ على الشارع الأوربي، أراد ببساطةٍ أن يقول: جميعنا مستهدفون، فالأخلاق لا تتجزأ.
الحدث الثاني: ارتفاع الحرب الكلامية بين فرنسا وتركيا، في الإطارِ العام لا يمكن فصلَ السياق الأخلاقي الذي تحدَّث فيهِ الرئيس الأسد وما لاقاهُ من ارتياحٍ لدى أغلبية القراء الفرنسيين والذي يعني اختراقاً للجدار الشعبي حققتهُ «الرواية الرسمية السورية» لما يجري من أحداثٍ في سورية، عما تعانيهِ صورة «تركيا الرسمية» في الداخل الأوروبي من انكشافٍ يربطها صراحةً بالإجرامِ والإرهاب، تحديداً بعدَ التهديدات المتكررة والعلنية لرأس الإرهاب في تركيا بإغراق أوروبا باللاجئين، انكشاف لا يمكن لهُ ببساطةٍ أن يلقى استحساناً عند من مازالوا يكابرونَ باللعبِ بورقةِ الإرهاب، وبمعنى آخر: هل شعرَ النظام التركي بأن هذهِ المقابلة، وما سبقها من زياراتٍ لوفودَ رسمية أوروبية قد تكون بداية انفتاحٍ أوروبي على سورية سيشهد تصاعداً وإن كان بطيئاً؟
تبدو كل الاحتمالات مفتوحة، تحديداً أن العملَ على ملفاتٍ كهذه قد يشوبَها الصمت المطبق، وبطريقةٍ أشمل قد لا يبدو استخلاص العبرة فقط من الأسئلةِ والأجوبة، لكنه قد يتعداها لردود الفعل غير المباشرة عليها، تحديداً ردود فعل المتضررين فكيف ذلك؟
دائماً ما يُصرُّ رئيس النظام التركي على قناعتهِ بأن رفعِ الصوت والتدخلَ بالشؤونِ الداخليةِ للدول هو أسلوبٌ قادر ببساطة على أن يخلقَ نوعاً من الضجيج الذي يحقق لهُ ضمانَ الوجود الإعلامي في الدول التي يستهدفها، هو مثلاً يظن بتمتعه بفائضِ قوة عند حديثه للمغتربين الأتراك في ألمانيا وحثّهم على إنجاب الكثير من الأبناء لأنهم مستقبل أوروبا، وصولاً للإهانة التي وجهها إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوصفهِ ميت دماغياً.
منطقياً لا يمكن أبداً توقع أن إهانة كهذه أرادها أردوغان ببساطةٍ كردة فعل على ما حكي عن سعي فرنسي لإقصاء تركيا من الناتو، لكن في الوقت ذاته وإن كانَ من الطبيعي أن تنتفضَ فرنسا لاستنكارِ تصريحاتِ أردوغان، لكن عليهم الإجابة عن سؤالٍ جوهري: لماذا تم تجاهل كلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب حولَ ماكرون في السياق ذاته؟
من الواضح أن تبادلَ الشتائم هذا جاء تجسيداً لما هو أعمق: ما مصير الإرهابيين الذين يمتلكهم رجب طيب أردوغان؟
دائماً ما نكرر عبارةَ إن النظام التركي بارعٌ باللعبِ على التناقضات وإن كانت الأولوية بالنسبةِ له هي التبعية المطلقة للولايات المتحدة الأميركية، هذا الأمر ساهم كثيراً بإطالةِ عمره السياسي وجعلَه حاجة لأكثر من طرفٍ، هذه الدونية قادته نظرياً للعديد من الانقلابات في التحالفات حسب ما تقتضيهِ الواقعية السياسية ليتحولَ إلى سمسارٍ كان آخر مزاداته زيارتهُ الأخيرة إلى واشنطن ولقاؤه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
بدا واضحاً منذ عودة أردوغان إلى انقلابه، ربما العاشر إن لم يكن أكثر، على الاتفاق مع الروس، من تعطيلِ وفدهِ لعمل اللجان الدستورية في جنيف مروراً بعدوانِ عصاباته على حلب وارتقاء عشرات المدنيين بينَ شهيدٍ وجريح وصولاً إلى فتح جبهة ريف اللاذقية، اليوم هناكَ ملفٌ أخطر يهم الروس وإن ابتعدَ عن الملف السوري جغرافياً لكنهما متصلانِ بالأدوات، وكلمة السر هي ضرب النفوذ الروسي المتنامي في ليبيا.
منذ اندلاع الصراع في ليبيا بين الطغمة الإخوانية بقيادة فايز السراج وقوات الجنرال خليفة حفتر حاول الأميركيون التعاطي بصمت مع مجريات الأحداث، لكن ومع ارتفاع الحديث عن الدخولِ الروسي على الخط ووصول السلاح إلى قوات حفتر، بدا واضحاً أن الأميركي اليوم أرادَ استخدام القاتل التركي المأجور بعيداً عن الصدام المباشر مع الروسي، فكان الاتفاق الذي وقعه النظام التركي مع الطغمة الإخوانية، اتفاق سيطرح الكثير من التساؤلات ليس فقط لأنه سيفتح المناطق التي تسيطر عليها الطغمة الإخوانية للقوات والشركات التركية لكنها ببساطة تتعلق بما هو أهم: هل تكون ليبيا هي نقطة الانطلاق الأقرب للإرهابيين الذينَ سيتم شحنهم من سورية نحو أوروبا ومصر؟
يبدو أن أردوغان جاد في تهديداتهِ بإرسال الدواعش إلى أوروبا، ولماذا عليهِ بعد هذهِ المرة استثمار الطرق البرية إذا كانت السواحل الليبية لا تبعد أكثرَ من 300 كلم عن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية؟ تلكَ الجزيرة التي تشهد كل عام وصول آلاف المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، أي إن هذا الاتفاق لن يكتفي فقط بجعل أوروبا بالكامل ساحة مفتوحة لتدفق اللاجئين والإرهابيين أيضاً، بل سيكون كافياً لاستعادة السيطرة على الثروات الليبية التي كانت ولا تزال منذ عهد الراحل معمر القذافي ملاذاً للطامعين، والأهم لا للوجود الروسي على ساحل المتوسط، فهل سيصمت الجميع عن هذا الحدث؟
بمعزل من سيصمت أو من سيعمل بصمت؛ هناكَ كلمات كتبها مواطن فرنسي تعليقاً على مقابلةِ الرئيس بشار الأسد مع «باري ماتش» قال فيها: «كانوا يقولون لنا إنه لولا بوتين لسقط الأسد، اليوم أرى لولا الأسد وبوتين لسقطنا جميعاً في فخ الإرهاب».
ليس مجردَ تعليقٍ، وليس اختصاراً لقصص كثيرة نعرفها جميعاً، ببساطةٍ هناك مقولة وإن كان ثمن تحقيقها غالياً، لكنها ببساطة ستتحقق مهما طال الزمن: «في النهاية لا يصح إلا الصحيح».