بداية لا بد من الاعتراف بأن مشروع تقسيم فلسطين الذي صدر عن «هيئة الأمم المتحدة» المتواطئة مع «اليهودية العالمية» في التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947، ما كان له أن يتحقق ليصبح أمراً واقعاً لولا أن:
1- تقاعس العرب، في ذلك الوقت، عن التصدي لتلك المؤامرة الشرسة التي كانت بدايتها المدبرة في دهاليز مطابخ التآمر «السري في أوائل القرن الماضي، من وعد بلفور إلى سايكس بيكو إلى الانتداب البريطاني»، بل إن العرب لم يأخذوا المسألة على محمل الجد، ولم يولوها من اهتمامهم وجهدهم ما هي جديرة به، لاسيما أنها سوف تمس مصالحهم وبلادهم جميعاً في قادم الأيام، من ثم فقد تركوا الشعب الفلسطيني الأعزل بسبب وجود الانتداب البريطاني ومن قبله الحكم العثماني، وحده يواجه المؤامرة الأخطر والأدهى في عصرنا، وسائر العصور المنصرمة، على مدى التاريخ البشري كله كانت المؤامرة أكبر من إمكاناته على التصدي لها، وبرغم ذلك لم يتوان عن الثورة عليها والوقوف في وجهها باذلاً من التضحيات ما يفوق الاحتمال وما زال هذا الواقع قائماً حتى الساعة.
2- النشاط اليهودي الدولي «الآيباك والماسونية والروتاري ومشتقاتها» الذي تجلى في حشد سائر القوى الداعمة له، وما أكثرها، لتنفيذ المخطط الصهيوني الذي لم يكن استهدافه لفلسطين سوى البداية، ثم الانطلاق، بعد ذلك، إلى الانتشار في المنطقة لتحقيق الأطماع اليهودية التي لا تقف عند حد، وكذلك الرأسمالية الاستعمارية شريكتها التي لا حدود لجشعها وبربريتها كما هو معروف عنها.
لقد نص قرار التقسيم الجائر على حقوق الإنسان، أفراداً وشعوباً على ما يلي:
«تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وربط الدولتين المقترحتين باتحاد اقتصادي، أما القدس فتخضع لنظام دولي».
حتى هذا النص، على فداحة إجحافه وإجرامه، لم ينفذ بحذافيره حيث مكَّن اليهود من تنفيذ الشطر الخاص بهم، فأقاموا ما سمي بـ«دولة إسرائيل» في حين أغفل كل ما يخص الشعب الفلسطيني. وها هي سبعة عقود ونيف تمر من دون أن تكون للفلسطينيين دولة حسب منطوق القرار نفسه. ولم يحدث ذلك، بطبيعة الحال بمحض المصادفات، وإنما كان بحكم التدبير المحكم المتواطئ من قبل دول بعينها مع اليهودية العالمية، مثل بريطانيا وفرنسا وأميركا وغيرها، وما كان من تلك الهيئة إياها إلا أن غضت الطرف عن كل ذلك، وسائر ما تلاه من خروقات وجرائم يهودية في حق الشعب الفلسطيني، الذي لم يجد كثيراً من العرب، إخوانه في العروبة افتراضاً، سنداً له من القوة ما يردع الأعداء عن المضي في ممارساتهم واعتداءاتهم المادية والمعنوية، ليس في حق الشعب الفلسطيني وحده، وإنما فيما يخصهم جميعاً، شاؤوا أم أبوا، فهو ما حدث على أرض الواقع بالفعل، هذا الضعف في الموقف العربي أسفر في نهاية المطاف عن كل ما جرى في المنطقة، على مدى سبعة عقود من الزمن، وهو نفسه الذي يجري اليوم تحت عنوان «الربيع العربي» الأكذوبة التي جاءهم بها يهودي صهيوني آخر هو المدعو «برنار هنري ليفي»، وسبقه إلى فكرته الخبيثة برنار لويس وآخرون من جماعة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وأغلبيتهم من اليهود.
لم ير الفلسطينيون يوماً أن فلسطين لهم دون غيرهم، إنما كانت رؤيتهم دوماً أنها أرض عربية خسارتها لا تعني الفلسطينيين وحدهم، ينطبق هذا الفهم على دول العالم الإسلامي أيضاً، وذلك ما أثبتته الأيام وهو نفسه موقف سورية، الدولة والشعب، التي ترى أن فلسطين هي الجزء الجنوبي من سورية، بلاد الشام، فيما يتشبث عرب آخرون بالقطرية البغيضة، وكأن كُلاً منهم يقول: «يا ربّ أسألك نفسي.. ومن بعدي الطوفان»! من هنا ظهرت في الآونة الأخيرة مقولة «بلدي أولاً». وماذا إذن عن بقية بلاء العرب؟ لا يهم!
ولئن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على قصر في النظر عجيب غريب، إذ إن العدو واحد والمصير واحد، وحكاية، «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» تعلمناها أطفالاً، في المدارس الابتدائية، غدت اليوم من المنسيات لدى بعض مثقفي العرب وسياسييهم.
لقد لعبت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية الدور الرئيس والأول فيما آلت إليه المسألة الفلسطينية من تقسيم للأرض وتشريد للشعب، وما تبع ذلك من أحداث ووقائع مأساوية، وتداعيات قلبت أمور المنطقة كلها رأساً على عقب، وتركت آثارها على الشعب العربي في سائر أقطاره وعلى الصعد كافة، وليس ما يجري على أديمها اليوم سوى واحد من تجلياتها.
دسائس ومؤامرات و«دولارات»، ذلك كله وظّف من قبل دول «عظمى»! تسمي نفسها «دولاً حرة»، بل وداعية رائدة للحرية وحامية «الديمقراطية» ومنافحة عن «حقوق الإنسان»، و«العدالة»، إلى آخر ما هنالك من عبارات إنشائية لا نصيب لها من التطبيق على أرض الواقع، إن لم يكن نقيضها تماماً هو القائم والسائد، حيث إن تلك الادعاءات، فيما نرى، ليست سوى غطاء للجرائم والممارسات التي يتولى كبرْها ووزرها أولئك أنفسهم، حتى أمسى العالم في ظل هيمنة هذه القوى غابة تأنف الوحوش نفسها العيش فيها، وإلاّ فليفسر لنا هؤلاء كيف يحدث أن يُخرج شعب من أرضه الموروثة عن آبائه وأجداده منذ آلاف السنين، ليهيم على وجهه مشرداً في سائر أرجاء الأرض في ظل «حضارة القرن العشرين»، عصر «التقدم والمدنية» على الطريقتين الأميركية واليهودية، لكي تحل محله عصابات ومافيات وقطاع طرق تستوطن بلاده، وتأكل خيراتها ظلماً وافتئاتاً وعدواناً.
بلاد برمتها يستولى عليها بكل ما فيها «مجاناً»، بل ويلاحق أهلها، فوق كل ذلك، بالقتل اليومي منذ ذلك الحين، وإزاء ذلك كله لا يجرؤ أحد، حتى على مجرد الاستنكار أو رفع الصوت، ولو بكلام لا يفيد الضحايا، في قليل أو كثير، إنها «شريعة الغاب» ومنطق القوة، ولكن «من يجرؤ على الكلام» حسب الكاتب الأميركي بول فندلي؟!
على أي حال، لابدّ من الإقرار، بل التأكيد على أنه ما من حديث في السياسة، أو الجدل البيزنطي الذي اعتُمد على مدى عقود متعاقبة، دونما طائل، يمكن أن يعيد للشعب الفلسطيني شيئاً من حقوقه المهدرة وأرضه المسروقة غير القوة، القوة وحدها هي اللغة التي لا يفهم الأعداء غيرها، ولقد أثبتت المقاومة بأنها هي السبيل الوحيد إلى هزيمة العدو، وتحرير الأرض الفلسطينية كاملة بحدودها التاريخية، وأي كلام غير هذا ما هو إلا مضيعة للوقت، وتضليلاً مقصوداً وصرفاً للأنظار عن توخي السبيل الأوحد، والأجدى لحسم الأمور، لاستعادة حقوقنا كاملة قبل فوات الأوان؛ فالظروف الراهنة إقليمياً والمتغيرات الدولية الجارية على قدم وساق هي اليوم في مصلحتنا أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى.