ثقافة وفن

احتفاءً بالقامات السورية الفكرية والأدبية … محمد صالح كامل شاعر القومية والحرية والفرح والآمال وحكايات البسطاء

| جُمان بركات- «ت: طارق السعدوني»

عاش رحلة الحياة بآلامها وآمالها، بحلوها ومرها، عاش في قلبها، كانت رحلة 67 عاماً فقط ولكنها في أعمار الأدباء دهر، فعمر الأديب الفنان هو عمر الزمان النابض بالحياة. غنى الشاعر محمد صالح كامل للوطن وغنى لسورية بأعذب القصائد، وفي ندوة الأربعاء «قامات في الفكر والأدب والحياة» كان الشاعر حاضراً بقصائده وفكره تحت عنوان «الشاعر محمد كامل صالح صوت من دوحة الشعر» في مكتبة الأسد الوطنية، وأدار الندوة د. إسماعيل مروة.

شعر الوجود والحب

أين ديوانك أيها الشاعر؟ سؤال وجهه الأديب «حسين راجي» إلى الشاعر محمد كامل صالح قبل أن ينشر ديواناً شعرياً، وخلاصة الجواب يوجزها الشاعر في قوله: «أما الشعر.. فهو الإنسان نفسه». وعن شعر الوجود والحب، تحدث د. أنس بديوي عن محمد كامل صالح: الشعر عنده –كما يقول الشاعر نجيب جمال الدين- رفض للأشياء المكتوبة، وشطح إلى الأماكن النائية، وهو يتوافق مع ما جاءت به الشعرية العربية التي قدمت تصوراً للإبداع الشعري بوصفه إلهاماً مستمداً من قوى خارجية قادرة، وهو ما يعلل ظاهرة الشيطان الملهم التي ترسخت في النظرية الشعرية العربية، وهو ليس ملهماً فقط بل يلقي على الشعراء جيّد أشعارهم أيضاً.
وفي مقاربة قرائية لما هو صادر من دواوين الشعر يمكن أن نكتفي في كثير من المواضع بالإشارة التي تغني عن طول العبارة فلا بد من الإقرار بأن اتساع عوالم الشاعر حملنا على تضييقها إجرائياً في تيارين: شعر الوجود وشعر الحب.
شعر الوجود: هو مصطلح أطلقه نعيم اليافي على الشعر القومي، لأنه يعبر عن الحرية مثلما يعبر عن الكينونة، وعن الحق في الحياة مثلما الشهادة، كان شعراً يربط الفرد بالأمة ويربط الاثنين بالتاريخ والجغرافية بآنات الزمان «الماضي والحاضر والمستقبل» ويتوحد الجميع من أجل القضية والإنسان. ومايميز شعر الوجود عند محمد كامل صالح فهو انطلاق الشاعر من محيطه وبيئته فهما المؤثر الفعال والأساس في تشكل الوعي، وإذا كان مرتكز التغيير المؤسس على الفعل الثوري هو أبرز توجهات الفكر القومي، فلا غرو أن يرصد النص الشعري مكوّنين رئيسين لتجليات ذلك الفعل، الأول هو الفلاح والثاني هو العامل.

مؤثرات

وتحت عنوان «المؤثرات التراثية في شعر محمد كامل صالح» تحدث د. محمد قاسم:
ربي محمد مع أمه فتاة غسان في كنف الجد الشيخ سليمان الأحمد، وعنه أخذ دقائق اللغة وذخائر التراث وشمائل اللطف ومنه اكتسب أحاسيس الفطرة وتلاوة الفطنة وخلب الألباب.
إن هذه البيئة العروبية الغسانية الجذور، والموهبة الفذة التي جبل عليها الفتى وماعصف بالبلاد حمل هذا الشاعر المتمرد على التغريد بأجمل ما يسخو به أنين الألم، فروحه التي تنز ألماً أثرت جدار الشعر بقصائد جياد باقيات على وجه الدهر، وما أكثر الأطيار التي تؤثر الصمت، حتى إذا أصاب سهم مقلتها فاضت بأروع ما يكون الصداح.
جمع محمد صالح بين الجاهلية والحاضر بألفاظه وصوره، في هذه البيئة العربية الصافية الزاخرة بالعلم الفيّاضة بالشعر نشأ الفتى محمد فاستقرت في روعه قصائد البحتري وأبي تمام ومهيار الديلمي والرضي وشعراء الأغاني. لمحمد كامل صالح ثلاثة دواوين: «سقط جدار النوم»، «صلوات في محراب عشتروت»، و«أغنى من الشموس».
محمد كامل محاط بأساطين الشعر نسباً ورواية، ولم يكن بد من ظهور آثار هذه الإحاطة على وجه قصائده، وتفاوت شعره بين شعر ناهد إلى طبقة الفحول كقصيدته الغميس «آفاق» لما فيها من عمق فكري علائي، وأنغام وألوان وصور آسرات، وبين ما هو دون ذلك، ولاسيما قصائده التي جاد بها في حمّيا الشباب والصبا وفيها ظهرت الثقافة الغربية وهو في الأغراض الاجتماعية والسياسية أمتن منه في الغزل والوجدانيات.
إن محمد كامل صالح شاعر ذو ديباجة معطرة بالأصالة وقد انقاد له القول انقياد النسيم للأنف، وقد استدعى التراث العربي إلى شعره ببراعة، فبدا موصول الرحم بطبقة أبي تمام والمتنبي في غير قليل من أشعاره الجياد الحسان، وهو بعد مستحق أن تعقد عليه رسالة أكاديمية تحلل مضامين شعره وتفض ختمه وتكشف كوامن الإبداع الدفينة في أرومته.

نقمة الينابيع

الغياب فن الصعوبات التي لا تقدر عليها المخيلة، وعن «نقمة الينابيع المجاورة» قال حسين عبد الكريم: تعامل مع الأقاصي لا تبلغها خطوات الحاضر وقليلة هي الغايات التي تحتاج مديحنا، الغياب كالدهشة سره فيه وسرها فيها، بيوتنا مزدحمة بالغائبين وإصغاؤنا ليس لديه وقت فراغ، قصائد محمد كامل وسيرته عندها ما يكفي من سهر لغوي كرمى غيابه، وعنده فائض سلالات لغوية وأخلاقية وقداسات بقاء تليق ببهاء البقاء، وفي رحلة حياته وقصائده نجومية من دون عتبات أو أسقف مستعارة، لعله لا يجد وقتاً لا تتلهى به النجومية بالنجومية والشهامة بالشهامة.
الشهامة عند محمد كامل صالح فن وتكوينات نفسية وقصيدة اجتماعية يكتبها وجدانه وسلوكه ورخاء روحه، وهذه المتاعب الشهمة التي لا فلات منها كطائر لا فلات له من الأغصان معرفة تعلم الدروب، دروس تلقيها الينابيع على مسامع الأبناء والأحفاد، والمقصود بالينابيع ودروسها وأخلاقها الإلهامات والصفات الروحية والنفسية التي تدعم الحواس وتحمي الرؤى من وجع الضآلة.
محمد كامل صالح كالماغوط له نبعه ومولع بالمزاج وحراسته، لا نبع من دون مزاج جريان وهو فنان في تناغمات النبع ونطارته من هذيانات الينابيع. في الختام محمد كامل صالح شاعر كبير بإعلام صغير ولا أقصد هنا أي إعلام، فإعلامنا الوطني يقدم لنا كل الإمكانات لكن الإهمال نبعه الأول الشاعر ذاته.

خمس مدارس

نشأ شاعرنا على خمس مدارس وتأثر بها حياتياً وكوّن نفسه فنياً وفكرياً وإنسانياً، وعن حياته تحدث نجل الشاعر كمال صالح:
أنا مع هيلانة ضد جيوش الإغريق، هكذا قال الشاعر وبهذه الكلمات نستطيع أن نفهم الروح الإنسانية العالية التي كان يتحلى بها الشاعر والتي انحازت إلى الحب والإنسان ضد جيوش الإغريق.
إنه واحد من هؤلاء الشعراء الكبار في حياتنا الثقافية ومن الذين شق قاربهم بحوراً تجيش بأنوار التجارب على مدى عمره كإنسان، ورغم جزر المصاعب ومتاهات الإبحار على خريطة لا تغطي إلا القليل من مساحة الرحلة واصل طريقه مهتدياً بالتراث التنويري الذي خلفه جده الشيخ سليمان الأحمد، إنها مدرسته الأولى، ودرس الصرف والنحو والبديع تحت ظلال زيتونة كبيرة، أما مدرسته الثانية فكانت والدته فتاة غسان الوثابة والعطشة إلى آفاق جديدة في واقعنا الذي كان يدعو للحزن والرثاء وإلى التحرر من محدودية الزمان والمكان، لقد أغنت خياله بما لا يمكن أن يغني خيال طفل، شاعرة خلقت أمام ابنها آفاقاً يكاد يحترق لكي يتلمس أبعادها، ووضعت بين يديه أحلى الجنيات وأروع المواقف الإنسانية قصتها له، والمدرسة الثالثة كانت أرض بلاده، فقد التهم كل القصص الشعبية وكان يتمثل له في كل حبة تراب من هذه الأرض أو تحت أي حجر أو في كل غار أن يرى حلقة باب يفتح له، وتحت كل شجرة كان يترقب الطائر الأبيض، يخلع ريشه على الأغصان ليلهو معه في مكان ما من عالم آخر، أما المدرسة الرابعة فكانت معلمه رئيف خوري الذي كان سيد الكلمة الحرة وأحد رواد الأدب العربي الجديد، والجندية كانت المدرسة الخامسة حيث تعرّف من خلالها إلى مأساة الأمة العربية في فلسطين وشاهد بأم عينيه تسليم البلاد للصهاينة، وكانت هذه المدرسة عنيفة وهو الذي شارك شاباً في حرب فلسطين.
كان محمد كامل صالح مارداً في حبه وعقيدته، كان سيد من بنى الأساطير وهدمها، ومن غنّى للحرية والفرح والآمال وحكايات القوم البسطاء وتغنّى ببلاده وشامه، ووثق بالإنسان ودوره وفرديته وجماعيته، وكرّس قلمه ممجداً في كل لحظة الجانب الحي والملتهب فيه المشع كالشمس، وكانت المرأة هي الشريك الإنساني للرجل، هما وحدة متكاملة، والحب كمغامرة السفينة المهاجرة إلى البعيد، إنه جسارة أصحاب الاكتشافات الكبيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن